دافوس أفريقيا والشيخ نعينع وقوة مصر الناعمة

دافوس أفريقيا والشيخ نعينع وقوة مصر الناعمة

19 ديسمبر 2016
+ الخط -


بعد 26 ساعة سفر وزيارة 4 دول في يوم واحد، وصلت أخيراً إلى الفندق الذي أقيم به. جسدي مجهد، قدماي لا تقويان على حمله، في حاجة شديدة لنوم عميق. أول مرة أزور دولة لا أعرف عنها الكثير سوى أنها بلد الزعيم نيلسون مانديلا، البلد التي استطاعت هزيمة التفرقة العنصرية، التي حاول الاحتلال البريطاني أن يزرعها فيها إلى الأبد.


هل هذا هو الفندق الذي أقيم به، هل أنت متأكد؟!

سؤال قلته لسائق التاكسي الذي أقلني من مطار كيب تاون، وكلي توجس من أن يتركني لوحدي في الشارع أواجه مواقف محرجة، قرأت عنها قبل زيارتي دولة جنوب أفريقيا لأول مرة في حياتي، مثل السرقة وغيرها.


رد السائق بكل ثقة وهو يشير إلى العداد حتى يذكرني بدفع تكلفة الرحلة من المطار: نعم، هو الفندق الذي زودتني باسمه. نزلت من التاكسي، وقبل أن أحمل حقيبتي اقترب مني أحد العاملين بالفندق، وقال ووجه الأسمر مبتسما: مرحباً بك في بلدك جنوب أفريقيا، قالها بلكنة إنكليزية سليمة، وقبل أن أرد على الترحيب قال: من أي البلاد جئت؟

قلت: من مصر.

قال: مصر.. بلد الطبيب القارئ الشيخ أحمد نعينع.

قالها بشغف وتلهف، والبسمة تملأ وجهه وكأنه عثر على الشيخ نعينع نفسه.

قلت له: نعم من بلد القارئ أحمد نعينع.

فرد بسرعة: أعشق قراءة هذا الرجل للقرآن الكريم، لدي في بيتي كل أشرطته وتسجيلاته وسيديهاته، أريد أن أقبل يديه عندما أراه، ألمس التراب الذي يمشي عليه، أعشق قراءته للقرآن خاصة عندما يقرأها برواية حفص عن عاصم، أتابع كل جولاته الخارجية على الجاليات المسلمة، أتمني أن يزور جنوب أفريقيا حيث بها جالية مسلمة يزيد عددها عن المليون مسلم، لدينا أيضاً ما يزيد عن 500 مسجد وأكثر من ألفي طبيب مسلم.


استغربت بشدة من كلام الرجل وخجلت من نفسي، فالرجل يعرف عن الشيخ نعينع ما لم أعرفه أنا، يعرف المناسبات التي قرأ بها القرآن الكريم، والقراءات التي يقرأ بها الكتاب المقدس، والدول التي زارها وتلا فيها القرآن الكريم. وبسرعة قال لي: عندما أحج إلى بيت الله الحرام سأزور الشيخ نعينع وسأصلي معه في مسجده وسأقبل يده الكريمة.


تخيل الرجل ساعتها أن مصر والسعودية دولة واحدة يعيش بها الشيخ نعينع، أو أن المسافة بين مكة والقاهرة تقل عن المسافة بين جوهانسبرغ وكيب تاون.


وبينما كان يعدد صفات القارئ الطبيب كما يحلو للمقربين أن يطلقوا عليه، إذا بي أتذكر دعوة أمي رحمها الله عندما كانت تدعو لي دعوتها الشهيرة "ربنا يحبب فيك الرب والعبد.. حتى الحصى في الأرض"؛ إذ إن الرجل كان هدية من السماء ليهدئ من روعي وقلقي من هذا البلد الذي تكشف وسائل الإعلام الدولية، عن تنامي الحوادث العنصرية فيه بشكل ملحوظ، خاصة في الجامعات والمدارس، ومواقف السيارات والمطاعم، والمباني الحكومية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.



لم يتوقف الرجل عن الكلام عن الشيخ نعينع، لدرجة أنه جعلني أنسى مشقة رحلة السفر التي زادت عن اليوم، لكن سؤاله أعاد لي تذكر الرحلة الشاقة مرة أخرى. كيف كانت رحلتك؟ سألني وهو يحمل حقيبتي من الشارع إلى صالة الفندق حيث الاستقبال؟


الرحلة كانت شاقة جدا، هكذا أجبته.. فالرحلة كان برنامجها كالتالي: أستقل طائرة مصر للطيران من القاهرة إلى جوهانسبرغ عاصمة جنوب أفريقيا لمدة عشر ساعات ونصف الساعة وبشكل متواصل، وبعدها أستقل رحلة داخلية من جوهانسبرغ إلى كيب تاون في حدود 3 ساعات، لكن برنامج الرحلة "اتلخبط" وزاد عدد ساعاتها من 14 ساعة إلى 26 ساعة، والسبب زحام المواصلات بشوارع القاهرة وعلى الطريق الدائري، والذي أضاع عليّ موعد الرحلة.


كان الرجل يسمعني بشغف رغم أنه لم يزر القاهرة ولا يعرف زحامها، ولم يجرب السير على الطريق الدائري حول العاصمة المصرية، كما لم يغادر بلاده ولو مرة واحدة طوال حياته وكله أمل أن يزور بيت الله الحرام.


أكملت كلامي عن رحلتي الشاقة "وصلت مطار القاهرة في الثالثة عصراً، كانت طائرة مصر للطيران قد أقلعت ولم أستطع اللحاق بها بسبب تأخري هذه المرة وليس بسبب نسياني، كان أمامي خياران، أن أعود إلى بيتي، أو أن أواصل الرحلة لكن برحلات ترانزيت".


اخترت البديل الثاني، لأن المهمة الصحافية التي كنت مكلفاً بتغطيتها كانت مهمة بالنسبة لي وللصحيفة التي أعمل بها، المهمة كانت تغطية منتدى "دافوس أفريقيا"، وهو مؤتمر دولي يشارك فيه عشرات من رؤساء الدول والملوك والأمين العام للأمم المتحدة ويبحث أبرز أزمات القارة السوداء الاقتصادية وكيفية التغلب عليها.


بدأت الرحلة الشاقة وتوكلت على الله، البداية ركبت طائرة الخطوط الجوية القطرية من القاهرة إلى الدوحة، مكثت بالعاصمة القطرية 3 ساعات لأستقل بعدها الطائرة الكينية من الدوحة إلى مطار أبيدجان، أكبر مدينة في ساحل العاج والعاصمة السابقة له والذي يطل على مياه المحيط الأطلسي.


في أبيدجان، شاهدت واحداً من أروع المطارات الأفريقية، مكثت في هذا المطار الرائع نحو 4 ساعات، بعدها واصلت رحلتي، ومن أبيدجان أخذت طائرة ثالثة إلى عاصمة جنوب أفريقيا، ومن جوهانسبرج طائرة خامسة إلى مدينة كيب تاون الساحلية الجميلة، ثالث أكبر مدن جنوب أفريقيا من حيث عدد السكان وعاصمة مقاطعة كيب الغربية.


أعانك الله، هكذا قال لي عامل الفندق الجنوب أفريقي، ليكمل "سوف تستريح هنا في فندقك، سنقدم لك كل وسائل الراحة وأهمها الهدوء والطعام الفاخر، الفندق قريب من قاعة المؤتمرات الدولية التي ستستضيف قمة دافوس أفريقيا 2007.. يمكنك أن تسير على القدمين للوصول لها". وبسبب الشيخ نعينع عشت 7 أيام من الراحة النفسية التي لا شد فيها ولا مخاطر لدرجة أني نسيت تفاصيل الرحلة الشاقة.


كان عامل الفندق الجنوب الأفريقي بمثابة مرشد سياحي يقدم خدماته مجاناً لي، لأنني من بلد القارئ الطبيب، كانت تعليماته صارمة لي، ومن جانبي أنفذها على الفور. إذا أردت أن تأكل فعليك بهذه المطاعم، لا تذهب لهذا المطاعم لأن أسعارها غالية ولا تقدم طعاما شهيا، هناك مطاعم يملكها يهود ابتعد عنها حتى لا تتعرض لمشاكل كونك عربي الجنسية، إذا أردت أن تذهب لقاعة المؤتمرات التي يعقد بها منتدى دافوس أفريقيا فإن المسافة قريبة، وإذا أخذت تاكسي لا تعط السائق أكثر من 14 راند (عملة جنوب أفريقيا)، ما يعادل دولاراً أميركياً. إذا أردت أن تتنزه فعليك بهذه الأماكن، وزودني بخريطة تحوي المواقع السياحية داخل المدينة مع توصيتي بزيارة حدائق ومتنزهات تقع بإحدى التلال العالية بالمدينة.


أمسك بيدي وأخرجني من الفندق، وأشار ناحية المحيط الأطلسي الواقع على بعد أمتار منا، قائلا "هنا السجن الانفرادي الذي قضي به نيلسون مانديلا 18 سنة من حياته بسبب مقاومته سياسة التمييز العنصري"، يمكنك أن تصل إليه سيرا على الأقدام. مساحة زنزاته لا تتعدى مترين...ابتعد عن هذه الأماكن، لا تزرها لأنها خطرة ويمكن أن تتعرض فيها لسرقة، فالحوادث العنصرية تتزايد بها خاصة في المناطق التي يقطن بها السود، من الأفضل أن تترك حافظة نقودك في خزنة الغرفة بالفندق حتى لا تسرق في الشارع، إذا أردت أن تصلي الجمعة فهناك مساجد كثيرة للمسلمين بهذه المدينة الساحلية التي شيد بها أول مسجد عام 1804.


وطوال أسبوع كامل استمتعت بالإقامة في مدينة كيب تاون التي تشبه طبيعتها طبيعة مدينة الإسكندرية المصرية، وكلما دخلت الفندق جرى العامل نحوي ليطمئن علي، ويسألني عن تفاصيل يومي، كيف كانت، وهل واجهت مشاكل؟ وهل الأمور على ما يرام؟


وعلى الرغم من مرور نحو 10 سنوات على زيارتي مدينة كيب تاون، إلا أن صورة الرجل لم تغب عن ذهني، وكلما تذكرت ذلك الرجل النحيف تذكرت على الفور قوة مصر الناعمة في القارة السمراء، التي لا تزال باقية رغم تراجعها في السنوات الأخيرة.​

دلالات

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".