عتمة

عتمة

15 ديسمبر 2016
+ الخط -

أوقف أبو محمد سيارته عند باب الزاروب المؤدي إلى بيتنا في تلك الليلة الباردة. ودّعته، ونزلت مسرعة. كانت الثالثة فجرا. إنها المرة الثانية التي أعود فيها من عملي في تلك الساعة المتأخرة.

ليلة حالكة السواد، لم أر أعتم منها. القصف متوقف، والكهرباء مقطوعة... ابتعدت السيارة وغاب نور مصابيحها. استعجل أبو محمد في المغادرة، لم يُنِر لي طريقي، ولم يفكر في انتظاري حتى أعبر الزاروب وأصل إلى البيت. ربما لم يشعر بحُلكة الليل مثلي.

السكون يخيم على الحي، والهدوء مخيف لشدته. شعرت لوهلة أنه متَعمّد، كأنه وحش يريد ابتلاعي. خليط العتمة مع السكون جعل الشارع مثل ثقب أسود، أو هوة عميقة لا قعر لها. هوة بعيدة أشد البعد عن كل ما يمت للحياة بصلة.

كنت أعرف اتجاه الزاروب بالطبع. وأسعفني نور مصابيح سيارة عابرة لثوانٍ، وساعدني على تمييز جغرافية المكان، قبل أن يتلاشى ويغيب.

خطوت أولى خطواتي عند مدخل الزاروب بكل عزم وسرعة. كان همي هو التحرر من قبضة هذا السواد، والدخول إلى بيتي، والاختباء تحت الأغطية السميكة، هرباً من الخوف الذي هزّ أوصالي، كما البرد تماما.

اصطدمت ركبتي بشيء قاس. جفلت قليلا واضطربت. اختل توازني. استندت بيدي الاثنتين على ذلك الشيء، الذي تبين لي أنه سيارة. في تلك اللحظة بالذات، أدركت أنني لا أرى شيئا. كانت أصابعي الشيء الوحيد الذي أردت رؤيته، فملابسي ومعطفي كان أسود مثل الليل. كنت في فترة حداد على والدي. ولكن أصابعي التي قربتها من عيني أكثر من مرة لم أرها.

استحلت إلى كتلة سواد محاطة بفضاء أسود. اسوداد لم يختبر عقلي رهبته من قبل...أين هو ذلك البصيص الذي نسمع عنه؟ أين هو خيط النور الرفيع الذي يمكنه أن ينجدني في محنتي؟ لا أريد أكثر من ومضة خاطفة، متناهية الدقة، تمر من أمامي مروراً عابراً، لأتلمس وجودي.

" ما أهبلني!!"، قلت لنفسي. كيف أنني لم أتوقع اصطدامي بسيارة؟ فحيّنا الشعبي مكتظ، لا مواقف فيه للسيارات و"لا من يحزنون". فلا مقاييس ولا نظام يحدد أين وكيف تركن السيارات. "ولكن لماذا أوقفها صاحبها عند مدخل الزاروب تماما؟" سألت نفسي. حاولت الالتفاف حول السيارة من الجهة اليسرى، لكي أكمل طريقي. لم أجد مجالا لذلك. كررت المحاولة من جهة اليمين، فالأمر سيان.

رأيت بأصابعي وبكفي أن السيارات متلاصقة، ولا تترك لي متنفسا أنفذ منه إلى بيتي، إلى ملاذي الذي كنت بأمس الحاجة إليه. لنقُل إن الليل تآمر عليّ فأخفى نجومه وقمره، وجعلني عمياء البصر! فماذا عن البصيرة؟ أريد عونها الطارئ لأجد مخرجا!!

لم يكن أمامي مفر سوى الصعود على السيارة، فلا طريق سواها. كان الحل الوحيد الذي يقربني من البيت. وحسبت لحظتها أن عليّ التسلق بأقصى سرعة لاعتبارات عدة، خصوصاً أن الأفكار صارت تتزاحم في مخيلتي، وكان أغلبها يزيد من صعوبة موقفي ويكبلني.

ماذا لو شعر بي أحد الكلاب في الشارع، وأثارت حركتي غير المرئية فضوله، وبدأ بالنباح؟! هل سأتمكن، في هذه الحالة، من كتم أنفاسي، ومنع نفسي من الصراخ هلعاً؟ وماذا لو استيقظ أحدهم ليستطلع أمر الكلب وسرّ نباحه في الليل؟ وأطلّ من نافذته المشرفة على الزاروب، وسلّط ضوء البطارية بحثا عن الحيوان النابح؟ وبعد جولات ضوئه الخافت، يستقر ضوؤه المتحرك بالصدفة على كتلة سوداء فوق إحدى السيارات. ويصرخ: "من هناك؟".

أرد عليه: "أنا جارتك...!!". فينظر إلى ساعته، ويرى أن الوقت يقارب الفجر، و....! يا إلهي، كيف خطر لي هذا الخاطر؟ ماذا أفعل حقاً لو حصل ذلك؟

صارت الفكرة تجر أختها، وأنا في هذا المأزق المرير. هل أختبئ تحت السيارة إذا هاجمني الكلب؟ لا طبعا!! فالاختباء تحت السيارة لن يجدي نفعاً، لأن الكلب يستخدم حاسة شمه، ويتبعني حيثما أذهب. بدأت "أتسلق" السيارة. كان همي ألا أصدر أي صوت. فأي طقطقة، أو احتكاك لأحد أزرار معطفي أو حقيبة يدي بحديد السيارة، قد يكلفني "سمعتي" أو ربما حياتي.

قد يظن السامع أن هناك من يريد سرقة السيارة في هذا الظلام الدامس، فيخرج إلى الشرفة صارخا: "حرامي.... حرامي....". كيف أتصرف عندها؟! عادت الأفكار الموحشة من جديد!! كيف أتخلص منها؟!

عبرت مقدمة السيارة، وصعدت إلى سقفها بكل حذر وترقب، حبواً على ركبتي. والثواني التي قطعت خلالها سقف السيارة من أوله إلى آخره، بدت لي كأنها دهرا.

تمنيت أن يبقى التيار الكهربائي مقطوعاً إلى الأبد. أصابني الجزع والرعب من فكرة عودته في هذه اللحظة بالذات. فمع عودة التيار، يضيء الشارع و"تشعشع" الدنيا من حولي، وأرى نفسي زاحفة على سطح السيارة. لو حدث ذلك، هل كنت سأضحك من نفسي وعليها؟ أم أبكي؟! الاحتمال الثاني هو الأرجح، بل المؤكد!! لأنني كنت في أوج توتري، وغضبي، وحزني على نفسي...كنت سأتحول إلى "مجنونة" الحي، من دون شك. لماذا؟

أولاً، لأن عودة التيار الكهربائي تعني عودة الحياة إلى الحي. فمجيء الكهرباء إلى البيوت أعز وأغلى عند الناس من رجوع حبيب غائب أو عودة ابن ضال. سيهبّون من سباتهم لاستقبالها. هي المتحكمة بتفاصيل حياتهم، وهم المتشوقون لها، ينتظرونها بفارغ الصبر لتشغيل الموتورات وملء الخزانات بالماء، وتشغيل البرادات والغسالات و.... فكلها أمور يومية مرهونة بحضور الكهرباء في أي وقت وأية لحظة.

ثانياً، لا بد أن يراني أحد السكان! سيعرفني بالتأكيد، ويخبر أهل الحي جميعاً عما رآه. ويزف الخبر إلى صاحب السيارة، وعن رؤيته لي على سقفها. ويتعمد صاحب السيارة رؤيتي في اليوم التالي. ويبدأ بلومي ومعاتبتي، قبل محاولته معرفة الأسباب: "مش معقول صبية بعمرك تعربش عالسيارات، الصغار بيخجلوا يعملوا هيك!!". ولن يكتفي بهذا القدر، بل ربما يتطور الأمر إلى بحثه عن أي خدش في سيارته، ويحملني مسؤولية الأضرار، ويطالبني بتسديد كلفة الإصلاح.

حان وقت نزولي عن سطح السيارة، من جهة الزجاج الخلفي. ولكن كيف أنزل؟! لا أستطيع التزحلق ويدي ورأسي إلى الأمام. الظلام الدامس يكبلني، وأنا لا أعرف كيف هو شكل السيارة من الخلف! إذا كان موديلها "قطش"، كما يسمونه بالعامية، فهذا يعني أنني سأسقط على رأسي لا محالة. وهذا ما لا أريده! فأنا بأمس الحاجة لحلول بعيدة عن أية مجازفات. وأريد الخلاص من هذا الوضع بأقل الأضرار الممكنة.

استدرت وبدأت بإنزال قدمي نحو مؤخرة السيارة. لامست رجلي غطاء الصندوق. وبعدها وطأ حذائي الأرض. لكن رجليّ اصطدمتا من الخلف بمقدمة سيارة أخرى. يا للهول!!... غلى الدم في عروقي. شعرت بالغيظ. تحول بردي إلى حرارة. اشتعلت داخل ثيابي، التي تمنيت أن أتحرر منها. آه، لو أستطيع التخلي عن معطفي وحقيبتي، فيخف حملي، وتصبح حركتي أسرع، وأنتهي من هذا الكابوس الذي طال كثيرا.

كرهت نفسي، وكرهت مهنتي، التي ما زلت جديدة فيها. وسألت نفسي: "هل يستحق السهر في قسم الإخراج، إضافة إلى عملي الصحافي نهاراً، كل هذه المشقة؟! كل هذا الخوف؟! الآن في هذه اللحظة لم أعد واثقة من ذلك!!... سأخبرهم غداً في الجريدة، عمّا حصل معي، وأعتذر عن عدم استطاعتي الاستمرار في دوامي الليلي من الآن فصاعداً.

لم أعد أريد "المساواة"، ويكفيني أن "أناضل" خلال النهار فقط. أما في الليل فأريد ان أكون مع أمي وأخواتي في البيت...استعدت ما قاله لي أبو محمد مثل" نصيحة من أخيك الكبير"، ونحن في السيارة: "لا تعرضي نفسك لكلام الناس في الحي، مين بيصدق أنك بتشتغلي صحافية، لما يشوفك راجعة نص ليل عالبيت؟!".

لا أدري من أين جاء هذا الكم الكبير من السيارات؟ متى ركنوها في الزاروب؟ كيف تلاصقت بهذا الشكل؟ كيف يمكن لشخص نحيل مثلي ألا يتمكن من حشر نفسه بين سيارتين؟..أملت أن تكون طريقي مفتوحة هذه المرة، عن يمين السيارة أو يسارها، ولكن تجري الرياح....!!

أعدت الكرَّة. لم يعد تسلق السيارات سابقة عندي، بل صرت فيه من أصحاب السوابق. بدأت في الزحف فوق السيارة الثانية، ثم الثالثة. وها هما قدماي تلامسان الأرض مجدداً. وصرت أمام الممر الذي يأخذنا إلى بيتنا. هذا الممر المألوف، الذي خبرت أرضه منذ طفولتي، أستطيع أن أعبره بكل سهولة، حتى في الظلام.

قطعت المسافة المتبقية نحو البيت بسرعة البرق. أدرت المفتاح في الباب، وقلبي يخفق بشدة. دخلت على رؤوس أصابعي. الجميع نيام. وصلني صوت جدتي من تحت لحافها السميك: "قديش الساعة؟!".

( كتبت هذه التدوينة عام 2006 )

61B986DE-2650-44DE-86DA-74469348610B
سهى أبو شقرا

صحافية وكاتبة.. بدأت تجربتها في لبنان، ثم تنقلت بين الكويت والإمارات وقطر. عملت في إعداد البرامج التلفزيونية والإذاعية، ومنها برامج الأطفال.