يوم عيد سعيد مع بهاجيجو (3/4)

يوم عيد سعيد مع بهاجيجو (3/4)

14 ابريل 2021
+ الخط -

سألت الأستاذ بهجت عثمان: "هل تعتبر أن هزيمة يونيو 1967 كانت السبب الأبرز فيما جرى لجيلكم من عثرات وإخفاقات؟"، فأجاب بانفعال: "طبعاً أنا من ضحايا هزيمة يونيو، من بعدها جالي مرض السكّر، وباخد من ساعتها حقنتين أنسولين في اليوم، ورجائي ونيس اعتبر نفسه مسؤول عن اللي حصل في الهزيمة فسافر وساب البلد. انت عارف لما وقفوني عن الرسم أيام السادات اتعرض عليّ إني أروح (الأهرام) وأرسم في الفن والكورة ومش عارف إيه، وكلها حاجات كنت باحب أرسم فيها بس مش هينفع إني أرسم فيها بس، كانوا متصورين إني ممكن أوافق، قلت لهم طب بلاش أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا، الناس تقول إيه عني لما أعمل ده، يقولوا عني إني بعت نفسي بعد العمر ده كله، شوف أنا فاضل لي قليل في عمري وعايز أعمل خير في حياتي، وعشان كده اتجهت إني أرسم للأطفال، عارف لما تلاقي السلطان حط حقوق الإنسان تحت باطه وداس عليها، تعمل إيه، أنا شخصياً قمت عامل بالرسم ميثاق حقوق الطفل، عشان أقول للأطفال دي حقوقكم في الحياة والتعليم والحرية والكرامة، حافظوا عليها ودافعوا عنها، كل ده لإنه احنا جيل فضلنا نقول: "نحو غد أفضل"، طيب ما دام الغد الأفضل ده مش هيحصل، تعالوا نحلم بـ "بعد بعد بعد غد أفضل".

أضاف بهجت عثمان قائلاً: "عشان كده أنا أعتقد إن كتاب (صداقة بلا حدود) اللي عملته للأطفال واتطبع منها 10 آلاف نسخة نفدت كلها، هو شديد الأهمية من بين أعمالي كلها، لإني عملت فيه سيرتي الذاتية بشكل مختلف عشان أعلم الأطفال إزاي ممكن تكون في صداقة مع شجرة مع كتاب مش بس مع أشخاص، وإزاي يتعلموا حب الحياة من خلال هذه الصداقات، وسعدت جدا إن اللبنانيين لما شافوا الكتاب قرروا جزء منه في مدارسهم للأطفال، الاتجاه ده أتمنى إنه يثمر وأعتقد إنه سيثمر، وعشان كده أنا فخور بشغل الأطفال اللي عملته في مجلة ماجد اللي ظهرت سنة 1979 وبكل الكتب اللي رسمتها للأطفال واللي وصل عددها تقريباً لمائة كتاب وأعتقد إنها من أهم ما سيبقى من شغلي".

خلال حديثه معي عن الصحافة وأوضاعها وتجربته السيئة معها التي لم تتغير بتغير العهود والأزمنة، روى لي العم بهجت قصيدة رائعة كتبها صلاح جاهين رحمه الله في هجاء الصحافة لكنه لم ينشرها في أحد دواوينه، قال فيها:
"قول للجرايد يا جرايد ورق
بيبيعوا فيكي اللبّ ع الأرصفة
وتنفعي الخواجات في الإكنفة
خليكي في اللي اتهدّ واللي اتحرق
واللي ضحك ع البت في انجلتره
واللي عمل عملية أصبح مَرَه
قول للجرايد يا جرايد كلام 
شكله وِحِش ريحته كريهة وكئيب
مطرح ما لغوص فيه صباع الرقيب
خليكي ساكتة ده انتي حِبلة حرام".

بدأ بهاجيجو المولود في 27 سبتمبر سنة 1931 هواية الرسم وهو طالب في الابتدائية، كانت أمه طيبة وحنوناً وكانت تخاف عليه من اللعب في الشارع المزدحم الذي تكثر فيه الحوادث، فكان يلعب داخل منزله مضطراً، ويبدو أنه التقط غيّة الرسم من عمه الرسام، فبدأ يمارس هواية الرسم على ورق الكرتون داخل المنزل ويقوم بعمل أشكال مختلفة، ثم بدأ يرسم أمه وإخوته، وتتطور مهارته في الرسم في المدرسة، لكنه حين التحق بمدرسة الأمير فاروق في المرحلة الثانوية، نجح مدرس الرسم في جعله يكره هواية الرسم ويكره الدراسة أصلاً، لدرجة أنه قرر الهروب من جحيم تلك المدرسة والتحق بمدرسة النيل الثانوية، ليكون حسن الحظ أو لنكون نحن حسني الحظ، لأنه التقى في تلك المدرسة بمدرس رسم رائع اسمه يوسف رأفت يدين له بهجت بالفضل لأنه كما يقول "أعاد طلائي وتلميعي واستعدت نفسي ودخلت الفنون الجميلة وتحولت الهواية إلى حرفة".

لم يكن الكاريكاتير هدف بهجت الأول حين قرر احتراف الفن والتحق بكلية الفنون الجميلة سنة 1949، فقد كان من هواة وعاشقي النحت، لكن حقه في الحصول على بعثة دراسية لدراسة النحت ضاع، مع أنه كان الأول في دفعته بكلية الفنون الجميلة، وشعر بالإحباط لأنه لن يتمكن من مواصلة الحياة كنحات، فاتجه لرسم الكاريكاتير ليكسب رزقه، وشعر بعد فترة من ممارسته أن الكاريكاتير يعطيه نوعاً من القدرة على الأخذ بالثأر مما يضايقه، خاصة وهو خجول بطبعه، اكتشف ذلك حين بدأ يشعر بالراحة حين ينتهي من رسم بورتريهات ساخرة من زملائه الذين يسيئون إليه أو يتشاحن معهم، وبدأ يشعر أنه خلق للكاريكاتير وأنه لم يكن سينجح في النحت الذي كان يحتاج إلى كثير من الصبر الذي لم يكن متوفراً لديه.  
المفارقة أن مشوار بهجت عثمان مع الكاريكاتير والرسم الصحفي لم يبدأ في مؤسسة روز اليوسف وينتهي وظيفياً في دار الهلال، بل ما حدث كان العكس تماماً، فقد بدأ بهجت مشواره مع النشر وهو لا يزال في السنة النهائية في كلية الفنون الجميلة، حين عمل في رسم الإعلانات التي تنشر في إصدارات دار الهلال المتعددة، لكنه لم يكن راضياً عن الاكتفاء برسم الإعلانات، فقام بالتفكير في مشروع عمل صفحة كاريكاتير تضم عدداً من الكاريكاتيرات المتنوعة، وعرضها على جميع رؤساء تحرير مجلات الدار، لكنهم جميعاً اعتبروها غير صالحة للنشر، وحين عرضها ذات يوم على فنان الكاريكاتير الكبير عبد السميع عبد الله الذي كان ينشر وقتها في (المصور) أعجب بها جداً، وقرر عرضها على صديقه إحسان عبد القدوس رئيس تحرير مجلة (روز اليوسف) الذي أعجب بها جداً وطلب من بهجت أن يعمل في (روز اليوسف)، ليبدأ العمل فيها عام 1953، لكنه بعد أن تخرج من كلية الفنون الجميلة عام 1954 وقرر أن يتزوج زميلته في الكلية بدر حمادة لم يتمكن من تكوين أسرة بالمبالغ الهزيلة التي يتلقاها كرسام كاريكاتير، وقرر أن يعمل في التدريس لكنه لم يجد عملاً مناسباً إلا في مدرسة في المنصورة، حيث كان يدرس ويرسم في صحيفة (المساء) التي كان يرأس تحريرها خالد محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة ذو الميول اليسارية والمعجب بعمله، وبعدها سافر إلى السودان ليدرس في المدرسة الإنجليزية بالخرطوم، وكان من تلاميذه هناك الفنان رؤوف عياد الذي كان وقتها طالباً في المرحلة الثانوية، وحين تواصل نجاح رسوماته في (المساء) قرر أن يترك التدريس ويعود إلى مصر ويتفرغ لرسم الكاريكاتير، حيث التحق بمجلة (صباح الخير) التي عاش فيها أجمل سنوات عمره قبل أن يتركها في الستينيات وينتقل إلى دار الهلال التي ظلت تعامله بتحفظ منذ البداية وحتى النهاية.

حكى لي عم بهجت عن قصته مع الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين الذي عمل معه منذ قام بإنشاء مجلة (صباح الخير)، وحين تم تعيينه رئيساً لمجلس إدارة دار الهلال ورئيساً لتحرير مجلة (المصور) سنة 1964، "اتصل بيا بهاء وقالي أنا عايزك معايا يا بهجت، قلت له حاضر، وبعد ما قفلت المكالمة فكرت، وقلت لنفسي إحنا في (صباح الخير) ما كناشب نقول أنا أو انت، كنا بنقول احنا، أقوم سايب المجموعة دي كلها وأروح لوحدي، قمت واخد بعضي ورحت لبهاء وأول ما فتح لي الباب لقاني وقعت على الأرض وأنا باعيّط وباقول له يعني هاسيب صباح الخير لوحدي، قال لي لأ ما احنا هنجيب معانا محمد عفيفي وعمك عبد السميع وغيرهم، ورحت دار الهلال وفضلنا 27 سنة فيها أنا وعِفّو يقولوا علينا "الجداد بتوع بهاء"، حتى بعد ما ساب بهاء الدار فِضِلنا احنا: الجُداد بتوع بهاء".

قلت للأستاذ بهجت: "لكن بعد جيلكم الذهبي العظيم لم تظهر أجيال جديدة بنفس التميز والقوة، يعني يمكن أن تجد اسماً أو اسمين في كل جيل، لكن لا تجد الحالة نفسها التي كانت موجودة في أيامكم، ألا يستوقفك مستوى الكاريكاتير الآن"، فقال بأسى: "والله أنا باحس بمسئوليتنا ناحية ده لإننا وجدنا أساتذة لنا، لكن للأسف عندما أوقفنا السادات عن الرسم أنا وكذا حد من زمايلي وابتعدنا عن الساحة الصحفية اتقطعت صلتنا بالأجيال الجديدة، وكان لازم يكون في تواصل أكبر بيننا وبينهم، للأسف في أسماء دلوقتي من اللي بترسم كاريكاتير وبيقولوا عليها أسماء كبيرة بيفكروني بالعرضحالجي اللي واقف على باب المحكمة، خطه جميل وأسلوبه حلو، بس ممكن يشتم النهارده في بهجت ويمدح بلال وبكره يعمل العكس يمدح بهجت ويشتم بلال، واللي يروح له بفكرة يرسمها، بينما الكاريكاتير ده وجهة نظر وموقف من الحياة والمجتمع وقضاياه ومش مجرد رسم، وفي رأيي إن جمعية رسامي الكاريكاتير في العالم لو أرادت أن تتخذ لنفسها دستورا، فلازم تتخذ دستورا من كلمات صلاح جاهين اللي بيقول فيها:
أنا قلبي كان شخيشخة أصبح جرس
جلجلت به صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج قمتوا ليه خفتوا ليه
لا ف إيدي سيف ولا تحت مني فرس
عجبي، ده دستور رسام الكاريكاتير في رأيي وتقدر تستخدمه في الحكم على شغل أي رسام كاريكاتير في أي وقت".

....

نختم غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.