يناير بين الهزيمة والإمكان
2001، قطاع غزّة
طفلٌ في مثل عمري، يقفُ أمامَ الميركافا، يحرّكها للوراءِ ولا يتحرّك، وإن لم يستطع، يبقى ثابتًا في مكانه، يملأ الحيّز الذي لزمه أن يملأه، لم يحسب حساب القوّة في مواجهتها ولا القدرة ولا الأبديّة، فقط حساب الدور الواجب بالرجل الشريف أن يقوم به. كان طفلاً واسمه فارس عودة، فاقتنصوه من فوقها، ولم تحتلّ الدبابة الأشبار التي كان يشغلها فارس إلا بقتله، ولعلّ رفاقه هيّجهم دمه فطاردوا الدبّابة حتى طردوها.
2011 ميدان التحرير
ربضَ بجانبي من دون تبيّن ملامحه أو أن نتبادل أيّ حرفٍ منذ خلّقه الفراغ خلفي حيث قطَعَت مسافةٌ هائلة بين أربعتنا وبين الجموع المتأخّرين. في أقصى اليمين محمد بدوي ومحمود سامي، في المنتصف وليد عبد الرءوف يرفع علم مصر، ويسارًا أربضُ خلف شجرةٍ، ثم يظهر في كتفي هذا الشاب، ليكسّر بلاطات الأرصفة ويكوّمها أو يناولها لي وأنا أردُّ بها على رصاصات القتلة، ثم فجأةً يخطو للأمام فاردًا ذراعيه كأنما يهمّ بالطيران، هاتفًا بصوتٍ مسموعٍ ثابت: "أنا مش جاي أؤذيكم، أنا مصري زيّي زيّكم، سيبوني أدخل الميدان".
وصلته الرصاصة قبلي، ففجّرت رأسه الشريف في وجهي، وسقطَ جسرًا عبرنا فوقه جميعًا إلى الميدان، ولولا هذا السقوط لما تحرّكت الجموع المحشورة خلف جدار الدخان والرصاص إلى الأمام، واقتحمت الميدان عابرةً بحلمها فوقه جسرًا إلى قلب الميدان.
الأسباب الذاتيّة للهزيمة كثيرة، إدراكها ضروريّ وتصحيح ما أمكن منها واجب
رمنسة الأحلام تمنح الحالمين شيئًا من طمأنينة، ديناميكيّة في اللاوعي، أو خيال مجرّد لا يسعى لأقصى من كونه خيالًا، لكنّ نقلها لدائرة الأهداف يصحبه قلقٌ لا يزول وعبءٌ يقطع الأنفاس، سيلزم معه أن تفكّر وتخطّط وتسعى، وهذه كلّها ليست مجّانية، ولا تتأتّى للجميع، لا يكفيها حتى أن تريد، بل أن تسعى، وأعمالها ليست بالنيّات إنّما بالأداءات (التي غالبًا ما تحتاج طول نفس، وتراكمات قد لا يدرك أثرَها فاعلها بذاته).
ولعلّ هذا ما وقعنا فيه منذ بغَتنا دنوّ الحلم لهذه الدرجة، فبهتت أبصارنا عن إدراك الخطى على طريق تمكينه وإقراره، فكانت السذاجة، تلك الوصمة التي بدأت براءةً ثم انحدرت لما يؤذي، وهو ما وقعنا فيه كذلك منذ الهزيمة، لا إدراكًا لها فحسب وتفكيرًا فيما أوصل إليها، إنّما إغراقٌ في ذات الرمنسة التي كانت علّتنا الأولى، لكن على وجهها الكربلائيّ هذه المرّة "كنّا شرفاء، وكان الحلم عظيمًا، لكننا هُزمنا لأن الآخرين كانوا مجرمين، أو لأنّ الأقدار كان لها رأي آخر". نفيٌ للمسؤوليّة وحشرٌ للمرادِ في ساحة اللاوعي واللا أثر واللا قابليّة للتغيير، ومن ثمّ: لا شيء بأيدينا.
وعلى الجانب الآخر، ليس نقيضًا بالضرورة، فتوهّم امتلاك الأدوات كلّها والتحكّم مطلقًا في مسار الأحداث تضخّمٌ في تقدير الذات، وتجاهل للموضوع والمعطيات خارجها، وفيه عمًى مقابل، لا يحرّكُ إلا للخلفِ أو تخبّطًا، فرغم أهميّة ووجوب المراجعة والنقد الذاتي، وإعادة النظر في المسار بحثًا عن أسباب المصير، فإنّ ذلك يلزمه شيءٌ من التواضع وإدراك حقيقة الدّورِ والمساحة والأثر لا يجب إغفالها.
إعادة النظر في المواقف والانحيازات الفرديّة ضروريّ ومحمود، لكنه أقرب للتطهّر منه للمراجعة
فالأسباب الذاتيّة للهزيمة كثيرة، إدراكها ضروريّ وتصحيح ما أمكن منها واجب، لكنّها مجتمعة، لم تكن سبب الإجهاز على الثورة أو وقوع الهزيمة، ولو انتفت لما تحقّق الانتصار، ربّما عجّلت بوقوعها، يسّرت على الانقلاب إعادة إنتاج ذاته على صورةٍ أشدُّ قبحًا وتوحّشًا (تسويقًا وتبريرًا لا إيجادًا)، كما وصمتنا (هل هي وصمة فعلاً؟) بشيء من السذاجة النافية للثقة الجمعيّة.
وإعادة النظر في المواقف والانحيازات الفرديّة ضروريّ ومحمود، لكنه أقرب للتطهّر منه للمراجعة، إلا إنْ بَدأه مبادرٌ ليشتبك معه البقيّة، فالأصلُ أنّ الفعل الجماعيّ يلزمه نقدٌ جماعيّ من الفاعلين كما من المراقبين، إن لم يكن لتدارك الأخطاء وسدّ الثغرات، إحباطًا ممّن أنهكتهم التجربة فنفّوا المحاولة كما كفّوا الاعتقاد، فعلى الأقلّ: حتّى ننقل السرديّة كاملة بأمانة.
وأخيرًا: في غياب التكافؤ وجبَ ألا يحضر المقياس المكافئ، بل أن تعودَ لمُبتدأ الأشياء ومحرّكاتها الأولى، وتسأل نفسك ورفاقك السؤال المبدئي: ما الذي عليكَ فعله؟
ليست هذه طبائع الأمور، إنّما منطلقها في لحظات التأزّم الكبرى والردّات، وما قد يبدأ اليوم موقفًا أخلاقيًّا، بوعيٍ وتنبيه، يجب عليه له أن يصبح موقفًا سياسيًّا وتصوّرًا/برنامجًا يُنزل الحلم من المخيّلة إلى واقع البلد والناس، بدلًا عن انتظار الانفجار القريب ثمّ البكاء على ما سيؤول له بحكم معطياته المرصودة.