يا غزّة... إنّا ها هنا قاعدون
عشرةُ أشهرٍ من المحرقةِ في قطاع غزّة، وأيّامٌ طوالٌ كلّ ساعةٍ فيها كأنّها الدهر كلّه، وكأنّ يومًا عند أهل غزّة كألف سنة ممّا نعدّ، يتجرّعون فيها جحيم الدنيا رجاء فردوس الآخرة، ويُكابدون ذودًا عن أرض الله وبلاده وحقّهم فيها، بأرواحهم دون بخلٍ أو خذلان، ويذوقون ما يضيقُ المؤمن به ذرعًا، وما يعجزُ العابد عنه جزعًا، ويتوجّهون بعيونهم الراجية المغرورقة نحو السماء إلى الإله الذي ابتلاهم بأشدِّ ما يُبتلى به إنسان، وأفظع ما اختُبر به امرؤ على مرّ الزمان، فإن كان يجري المثل والحكمة على قومٍ يُنشرون بالمناشير، تصبيرًا لنبي الله وصحابته، فأهل غزّة نُشِروا بأشدّ من ذلك، وشرذموا أشلاءً بين السهول والوديان، وصبروا على ما لم نُحط به خبرًا، ولكلِّ منهم قصة وحكاية وعذاب يخصّه، لو وُزِّع على أمّةٍ كاملة لخرّت راكعة من هول الأمانة المُلقاة على ظهرها، لكنْ غزّة، البشر والإنسان وبنو آدم والطبيعيون والعادّيون تمامًا، رأوا وتحمّلوا ما تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هدّا!
وهم في ذلكم وحدهم بلا معين ولا ناصر إلّا الله، وليس من أهل الأرض إلا قلّة يسندونهم بما يخفّف عنهم أقلّ القليل ممّا يقاسونه، لكن ذلك لا ينفي عن العموم خذلانهم وترك غزّة تُقاتل عنهم وحدها، كأنّك صدّرت صفًا من الفرسان في بداية الجيش يقاتلون الروم والمغول والصليبيين وأشرّ أهل الأرض من كلِّ زمانٍ ومكانٍ معًا، ثم انسحبتَ ومن معك بجيوشكم العرمرم كلّها، بينما يجتمع الجمع على هؤلاء المساكين دون هوادة، والمفاجأة أنّ المساكين ما زالوا رغم بتر أقدامهم وسواعدهم ونحرِ أعناقهم واقفين يؤدّون أعظم مشاهد الكرامة والنبل والشرف في تاريخ الخليقة.
ومع ذلك، فإنّ من قومنا كثيرين تعبوا، بعدما ناصروا بالكلمة والقلب وأضعف الإيمان، فتراهم اليوم عاجزين عن أداءِ واجب القلب، وكان معلّمونا يضربون لنا المثل قديمًا بأنّ "حجة البليد مسح السبورة"، وهو أنّ الذي يتهرّب من الإجابةِ عن أسئلة المعلم، وواجب الصف، وضرورة الطالب، يتحجّج بأنّه كان يمسح السبورة لوقتٍ طويل، وهو ما يُجيده قومنا ببراعةٍ، تجيب غزْة وحدها ونمسح نحن جميعًا السبورة ولو بألسنتنا، حتى نتهرّب من المواجهة المحتومة والخيار الأشقّ، راكنين إلى الهروب الأسهل، لكنّنا اليوم وبعد شهورٍ من تلك الحجّة، نتهرّب حتى منها، لا أعلم بماذا وكيف، لكن "حجة البليد" حتى نفدت منّا، ونحن نعلن أنّنا ضقنا بها كذلك ذرعًا.
ليس من أهل الأرض إلا قلّة وقفوا مع أهل غزّة بما يخفّف عنهم أقلّ القليل ممّا يقاسونه
أيُّ تعبٍ تعبناه (يا لعارنا وعرينا) لنتوقف؟ وأيّ مشقّةٍ رأيناها لنجزع؟ وأيُّ طريقٍ خضناها لنرتاح؟ بعض الوعكات النفسيّة؟ الكوابيس؟ المشاهد الدموية المفجعة؟ مناظر الأشلاء والشهداء؟ أخبار النزوح والمذابح؟ أصوات القصف في الشاشات؟ صرخات اليتامى عبر الأثير؟ دموع الصغار؟ دعوات الكبار؟ لعنات الشبّان والعجائز؟ كلّ ذلك الذي يصلنا كقطرةٍ من محيط؟ أو ذرّة رملة من صحراء واسعة؟ كلّ ذلك الذي لا تصلنا ولو رائحته؟ ولا يخنقنا ولو دخانه؟ ولا نعيش ولو لحظةٍ منه؟
ثم ما الذي ترانا نفعله؟ نقتطع من وقتنا لنتحدّث عنهم أو نسمع منهم دون أن نحرّك ساكنًا بمصيرهم؟ نرى بعض الصور التي قد تؤرقنا وتلاحقنا وتعكّر علينا صفو الحياة ولو قليلًا؟ نتفرّج على ما يشبه مقرّرًا يوميًا بالإجبار بحكم التخاذل الكبير؟ ثم نعتزل؟ ونقول "آسفين يا جماعة مش قادرين نكمل"؟ أيّ حجّة لنا أمام الله فوق أنّنا بلا حجّة أصلًا؟ وأيّ عذرٍ وأيّ إجابةٍ سنقولها يوم نلقاه؟ وعليهِ فليعد كلّ عاقل إلى أن يكون ولو صوتًا واحدًا من ذلك الضجيج والزخم، أن يبحث عمّا يمكنه فعله من ماله أو وقته أو جهده، ولينظر كيف سيكون جزءًا من المستقبل القريب، إنْ تغيّب عن الحاضر المهيب، بدلًا من الولولة ثم التزام الصمت!
حتى لا نلقى مصير من قالوا ذات يومٍ بعيد: "اذهب أنت وربك فقاتلا.. إنا هاهنا قاعدون"! سينتصرون بقتالهم، ونُهزَمُ بخذلاننا، سينجون بطوفانهم، ونغرقُ بهلاكنا الكبير.