وهم "الزمن الجميل"
عزيز أشيبان

يتم تداول عبارة "الزمن الجميل" بين الناس، بإدراك ومن دونه، في إحالةٍ على أيّام الماضي واستسلام تلقائي لسلطة الوجدان التي تُضفي صبغة الجمال والسحر والتميّز على الماضي، وتقفز وتترفع على تفاصيل المعاناة والمرارة التي ميّزت وجوده. ضمنيًا، ثمّة حكم مُسبق يجعل كلّ ما هو آت في مقام القبيح الواجب تقبّله والتعامل معه في ظلّ استبعاد إمكانية استنساخ أو عودة الأيّام الجميلة من جديد في إلغاء تام لمعطى الزمن وحركية الأحداث. تستقبل الأجيال الحديثة العبارة وتبني تصوّرًا بعيدًا عن حقيقتها في رحاب التمجيد والإطراء الذي يُقبل عليه الآباء عند التحدّث عنها بكلّ ثقة في النفس وجزم بالحقائق.
نحن بصدد عملية تشبه التنويم المغناطيسي إذ في أغوارها يتحوّل الحاضر المرير إلى زمنٍ جميل بعد مرور بضع سنين، مع منحه اللمعان مع تجاهل تام لجانبه المُظلم البئيس. هل حقًا كان ماضينا أجمل من حاضرنا؟ هو سؤال استنكاري نود من خلاله دحض هذا التصوّر الشائع، إذ لكلّ عصر مميّزاته وإنجازاته وإخفاقاته، لذلك من الصعب التسرّع في إصدار حكم مُختزل يفتقد التريّث، ما يوجب إجراء عملية التفكيك الضرورية لعناصره.
نميل إلى القول بإنّ هذا النزوع التلقائي إلى تمجيد الماضي يجد جذوره في عوامل متعدّدة ومتداخلة. نركز على بعض منها.
أولًا، عدم القدرة على الانتماء إلى الحاضر بسبب قصور في فهم عناصر أحداثه ومسايرة مستجداته. هناك إعراض قبلي على الانصهار في حركيته والمساهمة في تشكيل اتجاهاته بفعل اضطرابات ورواسب نفسية وذهنية من قبيل الانهزامية وعُقد النقص وعدم الثقة في النفس وطغيان الميل إلى الخمول والتواكل مما يحول دون تأسيس علاقة ودية مع الحاضر، لنظلّ نئن تحت وطأة الهزيمة في معركةٍ لم نخضها قط. إذن، تتعمّق الفجوة بين الذات وانخراطها في الحاضر على المستوى الفردي بالقدر نفسه الذي تتعمّق فيه الفجوة بين الدول المتقدّمة والدول المتخلفة، بين من يقبل على الحاضر وينصهر في أدق تفاصيله وبين من يُعرض عنه ويظلّ مفعولًا به.
الوعي بالانتماء إلى الحاضر يشكّل أوّل خطوة من أجل المساهمة في محاولة صناعته
ثانيًا، غياب ثقافة الإقبال على المستقبل والإلحاح على التفكير بعقلية الأسلاف مما يفسّر الرجوع التلقائي إلى الوراء والإحساس بالخوف من المستقبل المجهول المرعب المُنذر بالأزمات والخيبات والنكسات. في الواقع، لم يتحوّل الانطباع النفسي إلى مبادراتٍ فعلية تتأسّس على عمليات التبصّر والتوقّع العقلاني لاحتمالات ما قد يقع، وتغدو بذلك سلطة المخاوف غير العقلانية هي المحدّد للسلوك ونوعية المبادرات.
ثالثًا، غياب العقلانية بوصفها فكراً وممارسة وطغيان سلطة العاطفة وردات الفعل. يظلّ العقل مُعطّلًا عن القيام بفريضة التفكير وإبداع الحلول والبدائل بعد الخوض في القراءة والنقد والتحليل الموضوعي للأحداث. وإذا حدث أن استيقظ من غيبوبته سرعان ما يعود إلى الموت السريري بمجرّد انبعاث أوّل ردات الفعل الانفعالية، وتنساق بذلك الذات وراء المشاعر وتقلبات المزاج ما دام السلوك رهينة للمؤثرات الداخلية والخارجية على حدٍّ سواء ومستباحًا لسيطرتها.
الجمال وكلّ الجمال للمستقبل، لكن بشرط الانغماس في الحاضر
رابعًا، تستأثر فوضى المفاهيم بالنصيب الوافر من المسؤولية في عدّة أزمات وإخفاقات، كيف لا والمفاهيم هي المنطلق في عملية التفكير وبناء التصوّرات واستيعاب حقيقة الأحداث. تنفصل المفاهيم تمامًا عن الجمود والسكون الذي يستقر في نوعية استقبال معانيها، إذ تظل متحرّكة بفعل تفاعل ذخائرها مع كلّ ما يحدث.
للأسف، يظلّ الجمال الحقيقي مُفتقدًا في جميع الأزمنة في جغرافية منطقتنا العربية. نحن شعوب لا تعرف ماضيها حقّ المعرفة ولا تستطيع فهم حاضرها، فكيف لها امتلاك حقّ بناء المستقبل الذي يقوم آخرون بهندسته بدلًا عنها؟
نبحث عن نقاطِ ارتكاز وهمية للإحساس بالسعادة والفرح والسلام الداخلي ونظلّ في تنقّلٍ مستمر من وهم إلى آخر في قلب واقع الجمود والتضعضع الذي يأتي على الأخضر واليابس. قد نتفق على أنّ الزمن الجميل نتاج حبكة نسج منظومة فن العيش من قلب تصوّرات إيجابية تتطلّع نحو القادم وتستفيد من كبوات الماضي وتستمتع بإحياء اللحظة والانغماس في عمق تفاصيلها. من هذا المقام يمكن القول إنّ الوعي بالانتماء إلى الحاضر يشكّل أوّل خطوة من أجل المساهمة في محاولة صناعته.
الجمال وكلّ الجمال للمستقبل، لكن بشرط الانغماس في الحاضر.

