وقف إطلاق النار في غزّة وتحوّل ميزان القوّة
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، شهدت الساحة الفلسطينية تحوّلات دراماتيكية كان لها انعكاس كبير على مواقف الأطراف المعنية، وخاصّة في الجانب الإسرائيلي، فالتصعيد الأخير لم يكن مجرّد جولة أخرى من الحرب، بل كان له تأثير عميق في القوى السياسية والعسكرية في إسرائيل، مما جعلها تضطر إلى وقف إطلاق النار. هذه الصفقة، التي جرى التوصّل إليها بعد مفاوضات معقّدة، جاءت في وقت كانت فيه إسرائيل تعاني من انقساماتٍ داخلية شديدة، مع معاناة للجيش الإسرائيلي داخل قطاع غزّة.
الإحساس بالنصر في الشارع الفلسطيني
عند الإعلان عن صفقة وقف إطلاق النار، عبّر الشارع الفلسطيني في غزّة، والفلسطيني عامّة، والعربي أيضًا، عن مشاعر الانتصار، وذلك رغم الخسائر البشرية والمادية الفادحة وغير المسبوقة في تاريخ الحروب التي تكبدتها غزّة، إلّا أنّ الفلسطينيين شعروا بالغلبة لأنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي لم يحقّق أيًّا من أهدافه العسكرية المُعلنة، والتي كان يروّج لها منذ بداية العدوان الغاشم، لا بل على العكس، أُجبر على إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار، ما يُعتبر هزيمة عسكرية ومعنوية.
وهنا، أستحضر بالضرورة رأي التحليل العسكري، حسب اللواء فايز الدويري: "النصر في الحروب غير المتناظرة يختلف كليًّا عن الحروب التقليدية، فإذا استطاع الطرف الأضعف مواصلة القتال والبقاء، فهو يُعتبر منتصرًا، في حين يُعتبر الطرف الأقوى خاسرًا إذا لم يُحقّق النصر". كما يرى أيضًا المُحلّل العسكري، نضال أبو زيد: "تفوّقت الفصائل الفلسطينية على إسرائيل من خلال صمودها وكسر إرادتها العسكرية".
هذه التصريحات تتماشى مع ما ذكره الدويري حول الحروب غير المتناظرة، حيث يمكن للطرف الأضعف من حيث الإمكانيات تحقيق التفوّق من خلال استراتيجيات فعّالة وصمود مستمر.
الخسائر البشرية والإحصاءات الجديدة
والحديث عن الخسائر البشرية الفلسطينية الغزّيّة حسب دراسة طبية نشرتها مجلة "ذا لانسيت"، فإنّ حصيلة الشهداء في القطاع خلال الأشهر التسعة الأولى من الحرب تجاوزت 64 ألف شهيد، بزيادة قدرها 40% عن الأرقام الرسمية التي أصدرتها وزارة الصحة في غزّة، حيث سجّلت الوزارة 37,877 شهيدًا حتى نهاية يونيو 2024، بينما قدّرت الدراسة الحديثة الرقم بين 55,298 و78,525.
يمثّل هذا الرقم 2.9% من سكان غزّة، ويشمل 59% من النساء والأطفال وكبار السن، إضافة إلى ذلك، تتوقّع تقارير أن حوالي 10 آلاف مفقود قد يكونون مدفونين تحت الأنقاض.
سجّل الجيش الإسرائيلي خسائر بشرية واقتصادية كبيرة، وخسائر أخلاقية هائلة؛ لم تعرفها الشعوب من قبل، وعزلة سياسية؛ ومُذكّرات اعتقال من المحكمة الجنائية
لقد استُخدم تحليل إحصائي متقدّم من قبل الباحثين باستخدام ثلاثة مصادر رئيسية لحصر أعداد الضحايا: البيانات الرسمية من وزارة الصحة، استطلاعات الإنترنت التي أطلقتها الوزارة، وبيانات النعي من وسائل التواصل الاجتماعي.
تعكس هذه الأرقام حجم الكارثة الإنسانية التي تعرّض لها سكان غزّة، حيث تشير الدراسة إلى أنّ الأعداد الحقيقية قد تكون أعلى بكثير بسبب الصعوبات في الوصول إلى جميع المناطق المتضرّرة، خاصّة مع استمرار الحصار والانقطاع المستمر للاتصالات. العديد من المؤسسات الدولية والأمم المتحدة أعربت عن قلقها من أنّ الحصيلة الفعلية قد تشمل المزيد من المفقودين والوفيات التي لم يتم توثيقها رسميًّا.
هذه الإحصائيات تعكس الهوّة الكبيرة بين الأرقام الرسمية والحقيقية التي يصعب حصرها في ظلّ هذا الدمار وقتل كلّ مقوّمات الحياة، بما يضع ضغوطًا إضافية على المجتمع الدولي للتدخّل وإيجاد حلول دائمة لهذه الحرب غير المنتهية؛ المجتمع الدولي الذي راق له دور المتفرّج أو العاجز أمام إجرام الجيش والقرار السياسي الإسرائيلي.
خسائر الجيش الإسرائيلي وأثرها بالقيادة الإسرائيلية
في الجانب الإسرائيلي، سجّل الجيش الإسرائيلي خسائر بشرية واقتصادية كبيرة، وخسائر أخلاقية هائلة؛ لم تعرفها الشعوب من قبل، وعزلة سياسية؛ ومُذكّرات اعتقال من المحكمة الجنائية.
وفقًا للبيانات الرسمية الإسرائيلية، قُتل أكثر من 840 جنديًّا إسرائيليًّا في المعارك، رغم التفوّق العسكري، مما دفع المحللين العسكريين الإسرائيليين إلى تسليط الضوء على ما وصفوه بـ "الفشل الاستراتيجي" في العمليات العسكرية.
وعلى الجبهة التحليلية العسكرية الأخرى أشار الخبير العسكري الدويري إلى أنّ الخسائر المادية والبشرية في صفوف الجيش الإسرائيلي تفوق بكثير عمّا يُعلن عنه رسميًّا، وأوضح أنّ الجيش الإسرائيلي يخسر آلية و6 أفراد بين قتيل وجريح كل ساعة و20 دقيقة، مما يعني سقوط 3185 جنديًّا بين قتيل وجريح خلال 28 يومًا من المعارك، إضافة إلى أنّ الأرقام التي يُعلنها الجيش الإسرائيلي عن خسائره في غزّة متواضعة ولا تعكس الواقع الحقيقي، لأنّ التقدير المنطقي يقول إنّ جيش الاحتلال فقد بين 40% و45% من معداته القتالية خلال الحرب، ويُرجئ الدويري تحليله إلى طبيعة العمليات العسكرية والمواجهات الدائمة.
الخسائر المادية والبشرية في صفوف الجيش الإسرائيلي تفوق بكثير عمّا يُعلن عنه رسميًّا
وفي أعقاب إبرام صفقة تبادل الأسرى؛ شهدت الساحة السياسية الإسرائيلية تطوّرات عميقة، ففي 19 يناير 2025، قدّم وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، استقالته من الحكومة، تلاه وزيرا المالية بتسلئيل سموتريتش، والداخلية آرييه درعي. هذه الاستقالات جاءت نتيجة للانتقادات الحادة التي وُجّهت للحكومة الإسرائيلية بسبب إدارتها حرب غزّة، والموافقة على وقف إطلاق النار، والشعور العام بالإحباط داخل الأوساط السياسية الإسرائيلية.
دور ترامب في الصفقة
على الرغم من الوضع الداخلي المتوتّر في إسرائيل، فإنّ الضغوط الدولية، وخصوصًا من الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، صاحب الدور المحوري في دفع نتنياهو وحكومته نحو قبول صفقة وقف إطلاق النار، من خلال مبعوث ترامب الخاص إلى الشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، الذي أسهم بالوساطة بين إسرائيل وحماس، وكان مُحمّلًا برسالة تحذير من مغبّة انهيار الاتفاق، الذي سيؤدي إلى فوضى عارمة. ولقد أرفق ترامب التحذير بتأكيدات لتقديم امتيازات لإسرائيل، إذا قبلت الاتفاق؛ وهو ما دفع الحكومة الإسرائيلية نحو الموافقة على الشروط.
لم تأتِ الضغوط الأميركية من خلفية إنسانية أو أخلاقية، إنّما مدفوعة برغبة لاحتواء التصعيد ومنع توسّع رقعة الصراع إلى مناطق أخرى، قد تهدّد استقرار المنطقة ومصالحها فيها.
دروس من العدوان الإسرائيلي وآثاره
أما على الصعيد الدولي، فقد شهدت القضيّة الفلسطينية دعمًا غير مسبوق، فقد تزايدت الأصوات العالمية المطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، حيث اعترفت دول عدة بالدولة الفلسطينية وأكّدت حقوق الفلسطينيين في مواجهة السياسات الإسرائيلية الاستيطانية والتوسّعية، فضلًا عن العزلة التي أصبحت تعيشها إسرائيل جرّاء ذلك.
إنّ العدوان الإسرائيلي على غزّة يعكس الانتهاكات الإسرائيلية المستمرّة في المنطقة، ويُثبت أنّ القوّة العسكرية وحدها ليست كافية لإخضاع الشعب الفلسطيني المناضل، الذي أصرّ على تمسّكه بشروطه، مما دفع الاحتلال إلى قبول اتفاق وقف إطلاق النار، بضغط من دونالد ترامب.
وأخيرًا، تبقى غزّة رمز الأنفة والكرامة والشجاعة الأسطورية؛ حقًّا وليس تشبيهًا، رغم تخلّي العالم عن أهلها ووقوفهم وحدهم أمام حشود الشر، وهم داخل قطاع محُاصر.
سلامٌ على غزّة.