وقفة أمام الطواحين الرقمية

28 مارس 2025
+ الخط -

فتح مازن عينيه كعادته على تنبيهات الجوّال المتكررة، التي علا صوتها لغياب الرغبة بالنوم. لم يكن بحاجة حتى إلى فتح عينيه أو استجماع وعيه قبل أن يُدرك أنّ هناك صرعة جديدة أو ترند جديداً كما يسمّى، يغزو منصّات التواصل الاجتماعي. جلس على طرف فراشه، التقط هاتفه، وبدأ في التمرير بسرعة بين التغريدات والمنشورات. الجميع يتناقلون الخبر ذاته، يتبادلون الآراء، يتقاذفون الاتهامات، الجميع يتكلّم، ولا أحد يتحقّق مما يجري الحديث حوله.

تعجّ مواقع التواصل الاجتماعي بالمنشورات المشحونة بالإثارة، آراء تتكلّم بلغة المُطلق في مختلف المواضيع. كلّ شيءٍ باللغة نفسها، وبعباراتها ذاتها، تُعاد في سياقاتٍ مختلفة، الصور عينها تتصدّر وتُشارك من دون ذكر المصدر. تطفو الفيديوهات القديمة مجدّداً على سطح المشاهدات، لكن بمسميّاتٍ مختلفة في كلّ مرّة، منسوبة لجهاتٍ جديدة، سيناريوهات متكرّرة، كأنّها معزوفة مشاع، تؤدّى في كلّ مناسبة، وتُغنّى في كلّ عرس. أصبح أيّ شيء قابلاً للمعالجة كمادة سائغة تتلقفها المنصّات.

يوجّه الكاتب الإسباني ثيربانتس بطل روايته دون كيخوته ليحارب طواحين الهواء بجسده المتهالك، متوهماً أنها وحوش عملاقة، واليوم يجد أحدنا نفسه في مواجهة الطواحين الرقمية. نفكّر في الرد وجدواه، وننسى في نهاية المطاف أنّ الضجيج الذي نلاحقه لا يعدو كونه سرابًا، وأنّ الطواحين التي تدور في الأرجاء ليست إلا أصداء أوهامٍ صاخبة.

الجميع يتناقلون الخبر ذاته، يتبادلون الآراء، يتقاذفون الاتهامات، الجميع يتكلّم، ولا أحد يتحقّق مما يجري الحديث حوله

تدور الطواحين الرقمية بلا توقف، في جميع الاتجاهات، بتركيز عال، تنفث هواءها وتبثّ أهواءها نحو عينيك، تطحن الأخبار، تخلط الغث والسمين، فأيّ شيء يصبح خبراً، لكن لا شيء سوى الغبار. تأمّل هاتفه للحظة، أقفله ورماه جانبًا. أخرج رأسه من النافذة واستنشق نسمات الصباح الباردة. إنه منتصف الشتاء، رعد وبرق في الخارج، ولكن بلا مطر.

يستيقظ الملايين منا اليوم، يلتقطون هواتفهم على نحو مشابه، ويرون الأخبار ذاتها، أخبارٌ متاحة للجميع وبالمجان، تأتي من دون إذن مسبق أو طلب أو متابعة، وإنما تنبثق في وجهك باستمرار وتلاحقك طيلة اليوم، حالها حال الإعلانات المتكرّرة.

منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأوّل كما يسمّى في المشرق العربي نهاية عام 2024، لم تتوقف عنفات الطواحين الرقمية عن الدوران. طواحين كثيرة، بأنواع متعدّدة مرئية أو مسموعة أو مكتوبة. تتجمّع في موجاتٍ متلاحقة، تحاول رسم المشهد الذي تتمناه ليتصدّر الأخبار ولو للحظات. 

يزيح الناس ركام بيوتهم، وخلف أصوات مطارقهم، يتلاشى ضجيج الطواحين الرقمية

لا يكفي الوقت لقراءة كلّ هذه التحليلات أو مشاهدة الوثائقيات. يقرّر مازن أنّ يكتفي بالمُختصر منها، التغريدات كثيرة، وفيديوهات الريلز القصيرة تتدفّق واحدة باستمرار مغطيّة شاشة الجوال. الوقت لا يحتمل أيضاً، كلّه معاد مكرور، أو جديد مبتذل.

يصحو السوري، حيثما كان حول العالم، وفي داخله خليط مشاعر. تارة يحمد الله ويستبشر، وحينًا يختنق بالحنين، أو يراقب ما يحدث في قلق ورجاء. التقط مازن النظر في هاتفه، تأمل الإشعارات المكدّسة في شريط المهام ثم أزاحها بعيداً، لا وقت لكلّ هذا. 

الطواحين الرقمية، والمنصّات الإلكترونية، حيث الجعجعة والضوضاء، صوت وحركة مستمرة، تتكدّس في مخازن الفضاء الرقمي ثم تبتعد وتتلاشى.

بعيداً عن كلّ هذه الضوضاء، ثمّة أمل يرتسم هناك، حيث يزيح الناس ركام بيوتهم، وخلف أصوات مطارقهم، يتلاشى ضجيج الطواحين الرقمية.