وجع لا ينتهي في حضرة الشهداء

وجع لا ينتهي في حضرة الشهداء

07 اغسطس 2022
+ الخط -

في حضرة وداع الشهداء.. تحاصرني الكلمات والحزن والليل يطول، وسط ازدحام صورهم المُعلقة في حبال الذاكرة التي لا تُريد أن تذكر سواهم، وبتجلّ أقفُ ألقي التحية حينما أذكرهم وأقرأ حكايات نضالهم، وهنا أبحث عن فعل أي شيء فأستنجد بكلماتي وأمسك بأوراقي المبعثرة هنا وهناك، فتُعلن أقلامي النفير والحداد على رحيل الشهداء، وبألم تخُط أحرفا تطلب بها الغفران لأن كل ما ستخطه لم ولن يفيهم حقهم.

فالجريمة ذاتها، ولا جديد سوى أن أداتها في تطور، والفُجر في ارتكابها يتعاظم، وحتى مسرح الجريمة ذاته، والضحايا هم ذاتهم، وكالمعتاد على رأس المستهدفين الأطفال والنساء، حيث الجثث تراكمت والأشلاء تناثرت والدماء غطّت غزة بالطهر والعزة.

والمجرم هو ذاته منذ أكثر من سبعين عاماً، يسفك دماءنا، ويغتصب أراضينا، ويُدنس برجسه مقدساتنا، أقصانا وقيامتنا، وكل جرائمه موثقة كما الجرح في فؤادنا موثق، لكنه لم يُحاكم وما زال يرتكب أفظع جرائمه من إعدامات واغتيالات بوحشية وجبروت على مرأى العالم، عفواً لقد سقطت كلمة العالم منّي سهواً، لا أحد يرى رغم أن الجميع يُبصر، لكن لم تُبصر غزة أحداً من هذا العالم، فهي تُقاتل ترسانة الاحتلال العسكرية وحدها، خذلها هذا العالم كما خذل فلسطين حين اغتصبها بنو صهيون منذ أكثر من سبعة عقود.

لا تحرير دون مقاومة كتلك التي على أرض بلادي بكل فصائلها أنحني أمامها وأعجز عن خطّ كلمات تصف من يحمي عرضنا

 

تخيّلوا معي هذا المشهد: عائلة، أب وأم وأطفال، يجلسون عزّلاً في منزلهم، يتبادلون أطراف الحديث. يسأل الأب طفله عن أحول دراسته، والأم تحدث ابنتها عن سيدات خلّدهن التاريخ بفضل نضالهن، وتقول لها: كوني يا بنيتي مثلهن، انتزعي ثأرك من مغتصب أرضكِ. وهكذا مضى وقتهم ينتقلون من حديث إلى حديث، من حكاية شهيد إلى حكاية شهيد، يُريدون إضاعة الوقت في ظل هذا القصف اللعين الذي حجب حتى لون السماء، ينتظرون نهايته، لا لشيء، فهم اعتادوا على صوت الغارات والصواريخ والبنادق والقنابل والأسلحة الفسفورية والمحرمة دولياً. فقط كانوا يريدون أن يذهبوا لمواساة جارهم الذي يمكث في الشارع المقابل. ففي فجر اليوم ودّع زوجته وأطفاله الذين ارتقوا شهداء. لكنهم لم يستطيعوا الذهاب، فالقصف اقتحم منزلهم وأصاب الاحتلال بصواريخه صدورهم، ليلتحقوا بركب من اشتاق القلب إليهم من أحبابهم ورفاقهم الشهداء. كانت صورهم معلقة على الجدار قبل أن تُحطمه قنابل الاحتلال ويسقط ركاماً على عائلة جيرانهم الذين يمكثون في الطابق السفلي، حيث نجت طفلة ودّعت شهداء عائلتها وآثار القصف والدماء تلطخ وجهها الجميل، وهي تنتظر أحداً يداوي الإصابات التي داهمت جسدها النحيل. ولكنها رغم كل هذا، لم تهادن ولم تُساوم ولم تذرف أي دمعة، بل وقفت بشموخ تتحدى هذا المحتل الجبان، وتتوعده، فهي لن تنسى الثأر ولن تُسامح أحدا بدين الدم.

فهذه الطفلة يا أعزائي كغيرها من أطفال بلادي، يدركون جيداً من عدوهم، ويؤمنون بألا تحرير دون مقاومة، كتلك التي على أرض بلادي بكل فصائلها أنحني أمامها وأعجز عن خطّ كلمات تصف من يحمي عرضنا، ويحاول أن يلملم شرفنا المتشرذم الضائع بين أروقة القمم العربية، وأعشق أبطالها الملثمين كما كل الملثمين الذين يقاتلون عدوّي الأزلي الصهيوني، فهم من يستحقون الحياة، وأدعو إلهي أن يأخذ ما تبقى لي من عمرٍ في تلك الحياة لأهبه لهم، فهم من يستحقون الحياة التي غادرها الشهداء إلى السماء، وإليهم أقول: وداعاً يا شهداء العزة في غزة، فأنتم أقمار فلسطين التي تُضيء عتمة الليل الكالحة. أعلم أنكم لن تغفروا لقاتلكم ومحتل أرضكم والمنبطحين أمامه والمهرولين إلى التطبيع مع مغتصب العروبة، لكن بحق الله اغفروا لنا فنحن لا نملك سوى ذات الدموع التي نذرفها، والكلمات التي تحمل بفحواها ذات الوجع الذي يستيقظُ يومياً بارتقاء كل شهيد وكل اعتداء على أرض فلسطين، اغفروا عجزنا... لتغفر فلسطين لنا... والله لنا، عسى أن نلتقيكم ذات يوم، نلقي عليكم التحية ونرفع علم بلادنا ونحظى بشرف أن نردد نشيدها الوطني سوياً:

فدائي فدائي فدائي

يا أرضي يا أرض الجدود

فدائي فدائي فدائي

يا شعبي يا شعب الخلود

بعزمي وناري وبركان ثاري

وأشواق دمي لأرضي وداري

صعدت الجبال وخضت النضال

قهرت المحال حطمت القيود

فدائي فدائي فدائي

يا أرضي يا أرض الجدود

بعصف الرياح ونار السلاح

وإصرار شعبي لخوض الكفاح

فلسطين داري فلسطين ناري

فلسطين ثاري وأرض الصمود

فدائي فدائي فدائي

يا أرضي يا أرض الجدود

بحق القسم تحت ظل العلم

بأرضي وشعبي ونار الألم

سأحيا فدائي وأمضي فدائي

وأقضي فدائي إلى أن أعود

فدائي فدائي فدائي

 يا أرضي يا أرض الجدود

هبة أبو طه .. فلسطين
هبة أبو طه
صحفية أردنية من أصول فلسطينية متخصّصة في مجال التحقيقات الإستقصائية ومدونة. تحلم بأن "تكتب لفلسطين بالدم" كما أوصى غسان كنفاني.