وباء "الدكترة"

وباء "الدكترة"

24 مايو 2022
+ الخط -

من مفاسد زماننا الحالي تقديم الألقاب في التعامل مع الناس، وإنزالهم منازلهم، ووضعهم المواضع التي يستأهلونها، وهي حالة عامة ليست حكرًا على جهة أو فئة بعينها، إنما أصبحت صورةً لصيقة بطغيان التفكير المادي على حياتنا اليومية، وما يتصل بها من تراتيب حياتية وما تمخض عنها من فئات اجتماعية، فالمرء يوضع بناءً على حيثياتٍ ملموسة، لا تلتفت إلى مقدار علمه وفهمه وحسن سياسته، وسعة اطلاعه وغير ذلك.

ويمكن أن يتقبل المرء بعض التقبل هذه الحالة في عالم المادة، إذ يسيطر المال وتصنيفات الثراء، وما يتصل بذلك من أملاك وعقارات وحسابات بنكية، وعادة ما يكون أهل المال لصيقين بطبقات الحكام، فيحصلون عبرها مزيدًا من الجاه والسلطان. إذن تصبح الثروة أداة للتصنيف الاجتماعي، وبطبيعة الحال فلهؤلاء أماكن ومساحات لا يمكن لمن هم أقل منهم الدخول إليها، إن كانت نوادي أو مطاعم لا طاقة لمحدودي الدخل بها، وهي الأماكن الني تضم محاورات ذوي الجاه والثروة، ومحضن مناسباتهم.

وليس حديثي عن المال، وما نحن معه إلا كالناظر من بعيد نحو بستانٍ فيه من أفانين الفواكه وأطايب الثمر، مهما نظرنا فلن يأتينا أكثر من إرهاق الإمعان والبحلقة. ولكن حديثي عن تصنيفٍ من نوعٍ آخر، عندما تسيطر مثل هذه الحالة ولكن عند أصحاب الثقافة والمعرفة، فيقدم صاحب اللقب العلمي، ولو كان فارغًا، ويُستثنى من له دراية وفهم وإحاطة، لا لشيءٍ إلا لأنه لا يحمل قبل اسمه لقب "دكتور"، فيتحول مدلول "الدال" ها هنا، من لقبٍ أكاديمي استحصل عليه صاحبه نتيجة بحثه في قضية بعينها، وفي موضوع يتعلق بمساره الأكاديمي، إلى شكلٍ من أشكال التمييز، فهو مفتاحٌ للمشاركة في المؤتمرات وإعداد الدراسات والتعاقد مع الجهات المختلفة والمرموقة عادةً، وهو اللقب الذي يفتح أمام صاحبه طريقًا ليحقق المزيد من العلاقات والتشبيك، أما السؤال عما يحمله صاحب الدال من معارف وعلوم، فلم يعد سؤالًا مركزيًا، إذ أصبح اللقب مع قدرة صاحبه على التشبيك، أو قل تسويق الذات، والمبالغة في "نفخ" ما بقي منها، أصبح أكثر حضورًا وأهمية عن الأسئلة المركزية المتعلقة بالأثر والفهم وغير ذلك.

حدثني أكثر من صديق عن أستاذ جامعي "مرموق" يقضي محاضراته في الحديث عن نفسه، ويستفيض بذلك مارًا على زياراته وسفراته وما يحب ويكره

وهنا أود تسجيل أمر بالغ الأهمية، إنني لا أعني بكلامي أحدًا بعينه، فما أكتب هنا هو حصيلة مشاهداتٍ وتواصل منذ أن كنت طالبًا في الجامعة حتى يومنا هذا، كما أؤكد أن كلامي لا ينطبق على كل أصحاب الألقاب الأكاديمية، معاذ الله أن أكون ممن يعمم على الناس كافة، فمن الدكاترة الكثير من أساطين العلم ومحابره، ولهم في علومهم إسهامات بازغة وكتابات رزينة شائقة، ولهم فوق ذلك فهمٌ وتواضع وبصيرة واطلاع، ولهم مشاركات علمية نوعية وأطروحات بالغة الأهمية والدقة والأثر، ولكن القصد هنا عن تقديم بعض الناس والجهات لصاحب اللقب من دون أي اعتبارات أخرى.

وقد لفتني في هذا السياق، مقابلة مع باحث فلسطيني مرموق، كثير الاطلاع والتجول في ميادين العلم ومقارعة الاحتلال وتفكيك خطابه وروايته، وله محاضرات بالغة الفائدة، عندما سُئل عن الدكتوراه قال إنه لم يستكمل طريقها وكان أمرها يسيرًا بين يديه، فقد وجد المسار الذي شقه لنفسه أنفع له وللناس، وهو ربما أستاذٌ للأساتذة في مجاله.

أعود إلى من أفسد "الدكترة" وأحالها إلى هذه الحالة من الترهل، فمما يضرّ من يحمل الألقاب العلمية بعض الجوانب النفسية الخفية، فكثيرٌ من الدكاترة يتوجهون للتدريس في الجامعات، فالتدريس ومن ثم الإشراف على الأطروحات الأكاديمية يفتح المجال أمام بعضهم في أن تتضخم لديه "الأنا" بشكلٍ غير متوقع، فلا يسمح للناس بمخاطبته إلا والدال تتراقص قبل اسمه، ويذيل منشوراته وكلماته ومشاركاته بها، وما يتصل بذلك من تقديم رأيه وفهمه لكل الأحداث، واستعراض إنجازاته الهائلة التي لم يسبقه إليها إنسٌ ولا جان.

وقد حدثني أكثر من صديق عن أستاذ جامعي "مرموق" يقضي محاضراته في الحديث عن نفسه، ويستفيض بذلك مارًا على زياراته وسفراته وما يحب ويكره، إلى جانب آرائه السياسية والفكرية، وكيف يلتقي بالناس ويحادثهم وغير ذلك، فتضيع المحاضرة في كلامٍ لا طائل منه، ومن يثم يفاجأ الطلاب بأن صاحبنا هذا أقر عليهم في الامتحان كتابًا ضخمًا ما شرح منه إلا أقل القليل، ولكنه تغاضى في امتحانهم عن رحلاته ومغامراته، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ولا يكون حديثنا عن أصحاب الألقاب فقط، فالحالة التي يصلون إليها هي نتاج تعامل أطر وجهاتٍ كثيرة معهم على هذا المنوال، على أنهم أصحاب الفهم والرأي، فيُقدَم رأيهم على من سواهم، وهي ثغرةٌ لا ريب في تفكير الناس، وقد عمت هذه البلوى في كثيرٍ من الأماكن، حتى وصلت إلى الكثير من المحاضن، ونخرت العاملين في قضايا الأمة، حتى أصبح همّ بعضهم أن يكونوا ممن يقدم بالدال ليس إلا.

أخيرًا، وأمام الأرقام الصادمة عن حجم البطالة في أصحاب الشهادات العليا، وعن تراجع قيمة التعليم الأكاديمي، فغالبية جامعاتنا العربية لا تدخل التصنيفات العالمية لأفضل الجامعات في العالم، وهو تراجعٌ في جزء منه قائم على تخرج طلاب ضعاف ومن ثم يتحولون إلى أساتذة جامعيين ليسوا أفضل كثيرًا ممن يدرسونهم، وتمضي عجلة الضعف والتراجع في اضطراد مستمر.

وأقول للقارئ الكريم، وعلى الرغم من كلمات صاحبكم فهو مضطر أن يمضي في هذا الطريق، ليتلمس دربًا ليحصل على اللقب العلمي، وأرجو ألا أتعرض لوباء "أنا الدكترة"، وأكون ممن يضيف جديدًا ويعيش بين الناس حميدًا محمودًا.

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".