"هيئة تحرير الشام" والاستفادة من أخطاء الماضي

04 ديسمبر 2024
+ الخط -

اتسمت سياسة هيئة تحرير الشام بالبراغماتية بعد الهزيمة أمام تنظيم داعش في دير الزور منتصف 2014 نتيجة الضعف الذي حصل في صفوفها بعد خسارتها ما يُقارب 80% من قوّتها العسكرية واللوجستية وفقدان الموارد الاقتصادية العائدة من نفط الشرق السوري، لذلك حاولت القيادة البحث عن أساليب جديدة بعيدة عن العنف والتعنّت والسير في طريق واحد (الجهاد)، وهو الطريق الذي عادت له عدّة مرات حين رأت أنّها قادرة عليه، وهو ما حصل في معاركها مع حركتي أحرار الشام ونور الدين الزنكي وجيش المجاهدين وفصائل أخرى، أي أنها تعلمت أن تهادن وقت الحاجة وتضرب عند القدرة.

بعد خسارة مدينة حلب أواخر 2016، تبعتها خسارة مساحات كبيرة من أرياف حلب وحماة وإدلب مع نهاية المعارك في 2019، تعلّم أبو محمد الجولاني أنّ القوة العسكرية لا تكفي وحدها لتحقيق الانتصار، حتى وإن كُنتَ تملك آلاف المقاتلين المدربين على أعلى مستوى. فمن لا يملك السماء لا يمكن له حسم المعركة، لذلك بدأت الهيئة بكسب الحاضنة الشعبية من جهة، وكسب الدول في سعي منها للخروج من قائمة التصنيف الإرهابي. 

وفي ما يخصّ السكان المحليين، بدأت الهيئة حملات أمنية كبيرة ضدّ خلايا تنظيم داعش، واستطاعت بسط الأمن في مناطق سيطرتها كما عملت على عقد لقاءات ومشاورات مع وجاهات المدن والقرى والبلدات والاقتراب منهم أكثر، على الرغم من أنّ أغلب مشاكل هؤلاء الناس لم تجد لها الهيئة الحلول بسبب تعنّت القيادة أو الوضع الاقتصادي الصعب في الشمال. 

تعاونت هيئة تحرير الشام مع التحالف الدولي لاصطياد قادة تنظيم داعش والإخبار عن أماكن وجودهم 

على الجانب الآخر، لجأت الهيئة إلى وضع نفسها على خريطة الثورة السورية من خلال الاعتراف بها وإلغاء تصنيفها منظمة إرهابية، وبالرغم من أنّ ذلك لم يحصل لكنها استطاعت كسب ثقة العديد من الدول بحكم قدرتها على تنفيذ الأوامر الموكلة إليها، من خلال قيادة موحّدة خالية من التشتّت والفرقة وسيطرتها على المساحة كاملة في ريف حلب وإدلب، حيث تمكنت الهيئة من القضاء على تنظيم "حرّاس الدين" المنشق عنها والمبايع للقاعدة بشكل شبه كامل، وحتى من بقي منهم ظلّ دوره مقتصراً على الرباط على جبهات القتال. كما انتشر العديد من القصص حول إبعاد الهيئة للمقاتلين الأجانب من سورية وإعادتهم إلى دولهم ليصبح من يقاتل في الوقت الحالي فقط من يحمل الجنسية السورية، مع وجود قلّة من مقاتلين أجانب، نسبتهم لا تذكر. وبالنسبة لداعش، فقد تعاونت الهيئة مع التحالف الدولي لاصطياد قادة التنظيم والإخبار عن أماكن وجودهم من خلال جهاز الأمن العام التابع لها، فبنت بذلك نوعاً من الثقة مع القوى الدولية على أنّها الفصيل، أو بالأحرى الكيان الوحيد القادر على تنفيذ الأجندات والمهام الموكلة لها على سائر الأرض المسيطر عليها.

لا تزال هيئة تحرير الشام تمسك العصا من المنتصف وتحاول البقاء في مركز السلطة

يرى الكثيرون ممّن عايشوا الثورة السورية، ولاسيما الإسلاميون، أنّ "تحرير الشام" ليست كما كانت عليه قبل عدّة سنوات، فهي لم تخلع عباءة الراديكالية فحسب بل اتجهت أكثر للاعتدال، وخاصة بعد توقيف الحسبة والسماح للعديد من المنظمات ومنها الخاصة بالمجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية بالعمل في مناطق سيطرتها، كما غيّرت العديد من الأفكار والأيديولوجيات، ولعلّ أبرزها الاعتراف بعلم الثورة ورفعه في مناطقها بعدما داسه عناصرها في أكثر من مكان. فيما ترى مراكز الدراسات الغربية والصحف أنّ الهيئة تتعامل ببراغماتية للوصول إلى الحكم في سورية، أو على الأقل للحصول على دويلة ذات طابع إسلامي كما الحال في أفغانستان، وأنّ جميع التغيّرات في منهج الهيئة هي ظاهرية ولا تزال تعتمد عقيدة الجهاد والتكفير واستباحة الدماء لكنها أصبحت أكثر دبلوماسية لتحقيق أهدافها.

واليوم، لا تزال الهيئة تمسك العصا من المنتصف وتحاول البقاء في مركز السلطة ولا يخفي الجولاني خلال تصريحاته أنّ الهدف هو تشكيل كيان سني يقف في وجه الهجمة الإيرانية الممنهجة لتشييع المنطقة وتحويل السكان إلى مليشيات تقاتل بالنيابة عنها.

نجح الجولاني حتى الآن في مشروعه في ما يتعلّق بالغرب وأكبر دليل على ذلك هو استخدام بعض الدول للهيئة في الوقوف ضدّ المشاريع الإيرانية والضغط على بشار الأسد لإخراج المليشيات من سورية بعد فتح المعركة الأخيرة، كما نجح في إبقاء قوّته العسكرية وزيادة عد المقاتلين على الرغم من التغيير الواضح والكبير في أيديولوجية الجماعة.