هنري لورانز والصراع العربي الإسرائيلي
هنري لورانز، مؤرخ فرنسي شهير، صاحب كرسي تاريخ العالم العربي المعاصر في كوليج دو فرانس في باريس، قدّم رؤية عميقة للصراع العربي الإسرائيلي في عمله الأبرز "القضية الفلسطينية (La Question de Palestine)".
في هذا العمل، الذي يتألف من ثلاثة مجلدات ويغطي فترة تمتد من 1799 إلى 2001، يسلّط لورانز الضوء على التحوّلات السياسية الكبرى في المنطقة، ويعرض تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي من خلال عدسة تحليلية فريدة، تعتمد على تقسيم التاريخ إلى فتراتٍ زمنية صغيرة، مثل الأشهر أو الأيّام، لفهم الأحداث بشكل دقيق ومعمّق.
وبفضل تقطيعه للتاريخ إلى فتراتٍ صغيرة، يمكن للقارئ أن يتتبّع الأحداث يومًا بيوم. هذه الطريقة، التي كانت نتاجًا لتعاون طويل بينه وبين صديقه المؤرّخ الفلسطيني سمير قصير، تسمح بتحليل الأحداث بشكل دقيق، حيث يرى لورانز أنّ فهم التاريخ العربي يتطلّب النظر إليه من خلال تفاصيل كلّ يوم. ويصف هذا المنهج بأنّه يمكن أن يكون مشابهًا للطريقة التي يطوّر بها المخرج السينمائي سرد الفيلم بتقسيم الشاشة بين مشاهد متوازية في نفس الوقت، هذا يسمح للقارئ بفهم تدفق الأحداث وصراعاتها بشكل متشابك، مما يعطي تصوّرًا أكثر وضوحًا وشمولًا عن التاريخ.
يلاحظ لورانز أنّ التحوّل الأهم في مسار الصراع هو انتقاله من كونه صراعًا عربيًا إسرائيليًا إلى صراع فلسطيني إسرائيلي، وهو ما بدأ بالظهور بوضوح مع صعود ياسر عرفات وحركة المقاومة الفلسطينية. كما أنّ لورانز يشير إلى أنّ إسرائيل حاولت فرض سلام لا يخدم إلا مصالحها الخاصة، وهو ما فشل بسبب المقاومة الفلسطينية المستمرة. وكذلك يتوقف عند فترة الثمانينيات والتسعينيات، حيث بدأت محاولات لضم الفلسطينيين إلى عملية السلام ولكن على حساب تمثيلهم الحقيقي، وهو ما خلق حالة من التوتّر الداخلي بين الفصائل الفلسطينية مثل حركة حماس ومنظّمة التحرير الفلسطينية. وفي هذا السياق، يعبّر لورانز عن انتقاداته لأسلوب حكم ياسر عرفات، مشيرًا إلى أنه كان يحكم بالفساد والمحسوبية، لكنه في الوقت ذاته كان يتمتّع بالقوة السياسية من خلال السيطرة على تدفقات الأموال الدولية.
عدسة تحليلية فريدة، تعتمد على تقسيم التاريخ إلى فترات زمنية صغيرة، مثل الأشهر أو الأيام، لفهم الأحداث بشكل دقيق ومعمّق
في ما يتعلق باتفاقات أوسلو، يعتقد لورانز أنّ هذه الاتفاقات كانت سيئة للفلسطينيين لكنها خدمت مصالح ياسر عرفات بشكل كبير، فبينما كانت اتفاقات أوسلو تمنح السلطة الفلسطينية بعض الشرعية والتمويلات الدولية، إلا أنّها في النهاية لم تُؤدِّ إلى حلٍّ جذري للمسائل الكبرى مثل العودة، الاستيطان، والقدس...، ويستشهد لورانز بفشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية في عام 2000 كنموذج على الفوضى التي تميّزت بها هذه المفاوضات، مشيرًا إلى أنه كانت هناك محاولات فلسطينية لفتح مسارات بديلة للتفاوض، مثل الحوار مع سورية، ولكن تلك المحاولات فشلت أيضًا.
علاوة على ذلك، يؤكّد لورانز الأبعاد الرمزية العميقة في الصراع العربي الإسرائيلي، مشيرًا إلى أنّ هذا الصراع ليس مجرّد نزاع سياسي، بل هو نزاع يحمل بين طياته الكثير من التاريخ والحساسيات الدينية، فالصراع يختلط فيه التاريخ اليهودي مع التاريخ العربي، والذاكرة الجماعية للغربيين حول المحرقة مع ذاكرة العرب عن الاستعمار الإمبريالي. هذا الصراع يكتسب رمزية كبيرة بالنسبة للطرفين، وهو ما يجعل حلّه أكثر تعقيدًا، على الرغم من أنّ لورانز يرى أنّ صراعًا مثل هذا لا يتجاوز في حدوده الكثير من الحروب الأخرى التي تدور في العالم العربي والعالم، لكنه يحمل في طياته هذا البُعد الرمزي الذي يفرقه عن غيره.
في نهاية عمله، يعبّر لورانز عن قلقه الشديد حيال الوضع الحالي في العالم العربي، حيث يرى أن الصراع العربي الإسرائيلي أصبح له دور أصغر على المسرح العالمي بالمقارنة مع الصراعات الأخرى، مثل تلك التي تحدث في سورية أو في أفريقيا...، ورغم هذا يظلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي محوريًا في الوعي العربي والغربي بسبب هذا البُعد الرمزي، وهو ما يفسّر استمرار هذا الصراع في جذب الاهتمام الدولي.
في الأخير، رؤية هنري لورانز للصراع العربي الإسرائيلي هي رؤية متعدّدة الأبعاد، تتجاوز البُعد السياسي البسيط إلى مستوى أعمق من الفهم التاريخي والرمزي، وهو لا يقتصر على تحليل الأحداث فقط، بل يربطها بسياق تاريخي وديني عميق، مما يساعد على فهم الصراع بطريقة أكثر شمولًا وتعقيدًا.