هنا رابعة: حوار وطني في مسرح الجريمة

هنا رابعة: حوار وطني في مسرح الجريمة

13 اغسطس 2022
+ الخط -

لا تدع جمهورية الجنرال السيسي الجديدة ذكرى جريمة القرن في رابعة العدوية من دون أن تقول للجماهير إن حالة التصحر الإنساني في البلاد ممتدة، ولا سبب هناك يدعوها إلى التوقف عن إكمال ما بدأته فجر الرابع عشر من أغسطس/آب 2013.

في الأعوام التالية للمذبحة، كانت هذه السلطة تنتقي موعد الذكرى لتصدر رسائلها الدموية، بإصدار أحكام جماعية بإعدام المشاركين في اعتصام رابعة، أو إعلان تنفيذ عمليات القتل بأحكام الإعدام. وهذا العام اختارت، وهي في ذروة ما يسمى "الحوار الوطني" والعفو الرئاسي، والمصالحة الوطنية، وغير ذلك من مسميات اللغو الفارغ، أن تكون الرسالة هي: تأييد الحكم بالسجن المؤبد 25 عاماً بحق الخبير الاقتصادي المرموق الدكتور عبد الله شحاتة خطاب، وشقيقه، بتهمة المشاركة في اعتصام رابعة العدوية، حيث رفضت محكمة النقض الطعن المقدم منهما على الحكم.

كان الدكتور شحاتة مستشاراً لوزير المالية قبل الانقلاب العسكري، بعد أن ترك منصبه الرفيع في البنك الدولي وعاد لخدمة بلده في الفترة التالية لثورة يناير/كانون الثاني 2011 وحتى الانقلاب العسكري في صيف 2013، حيث رفض عرضاً من السلطة الجديدة بالاستمرار في موقعه، أو تعيينه وزيراً للمالية في حكومة حازم الببلاوي.

هذا الرفض المبدئي لأن يصبح جزءاً من حكومة انقلاب عسكري، جعله متهماً بالإرهاب، حيث ألقي القبض عليه ليتعرض لأبشع أنواع التعذيب في زنزانته، لانتزاع اعترافات منه بأنه جزء من خلية إرهابية.

كان حرياً بالسادة "موظفي الحوار الوطني" أن يبدأوا حوارهم من رابعة العدوية، وشهدائها وضحاياها الأحياء في السجون، من سياسيين محترمين وخبراء في شتى المجالات

 

كل ذلك لا يلفت انتباه كذابي زفة "الحوار الوطني"، ولا يستثير عند واحد من متعهدي التسويق له، مثل عمرو حمزاوي، أية دوافع للمطالبة بإدراج ملف سجناء "المبدأ والمعنى"، المحبوسين ظلماً منذ عام 2013 على طاولة الحوار المزعوم، ذلك أن العملية برمتها لا تعدو كونها تفاهمات بين محرضين ومصفقين للجريمة، وبين مرتكبي هذه الجريمة للتصالح، بعيداً عن ضحايا الطرفين.

هو إذاً حوار يقفز قفزة هائلة فوق أصل موضوع الاحتباس السياسي والتصحر الإنساني وجفاف العدالة في مصر، لكونه يتجاهل القضية الأساس: ذلك الانفلاق الوجودي الذي سحق الإنسان وأهدر كرامته وألغى حقه في الحريات السياسية والاجتماعية، من طريق تلك المجزرة البشعة التي حصدت أرواح آلاف المواطنين، وألقت بعشرات الآلاف منهم في جحيم السجون والمعتقلات.

كل جريمة هؤلاء أنهم شاركوا في اعتصام غلب عليه الطابع السلمي، بشهادة الهيئات والمنظمات الدولية بحقوق الإنسان، في محاولة لمنع إشعال النار في ما بقي من حصاد مصر من ثورة يناير/كانون ثاني 2011، والحيلولة دون اندفاع البلاد إلى حريق سياسي واقتصادي لم ينطفئ حتى الآن.

كان حرياً بالسادة "موظفي الحوار الوطني" أن يبدأوا حوارهم من رابعة العدوية، وشهدائها وضحاياها الأحياء في السجون، من سياسيين محترمين وخبراء في شتى المجالات، تحولوا في لحظة من أصدقاء وزملاء لكثيرين من المنخرطين في مقاولة الحوار، إلى متهمين ومجرمين مدانين بالإرهاب، لأنهم فقط، رفضوا المشاركة في مسار سياسي لقيط، يوزع الخراب والبوار في كل المجالات حتى الآن، ويواصل طريقه إلى الأسفل مختطفاً وطناً بكامله إلى الفقر والتبعية ورهن البلد للمانحين والمقرضين والدائنين.

لو كانوا حقاً جادين في إنقاذ وطن من الضياع، لوجب عليهم البدء بتركة الدم والقتل والظلم التي تتعاظم وتتضخم منذ الجريمة المرتكبة بحق الاعتصام الأكبر والأخير في تاريخ المصريين المعاصر، حين قتل الآلاف ومات مفهوم المواطنة المتساوية، بل انتهى زمن المواطن في دولته، وتحول من صاحب الدولة الأصلي إلى زبون عند الحكومة التي تهيمن على هذه الدولة بالحديد والنار، وهي الحال التي عبّر عنها بوضوح رئيس حكومة الجنرال قبل يومين وهو يمنّ على المصريين، الذين هم أصحاب الوطن والمالكون الشرعيون لموارده وثرواته الطبيعية، بأن الحكومة تبيعهم الغاز والكهرباء بثمن أقل بعشرة أضعاف من ثمنه لو باعته لغيرهم في أوروبا.

تلك هي تركة مذبحة القرن في رابعة العدوية وأخواتها، التي لا يمكن الحديث عن حوار أو فرص لتصالح الوطن مع ذاته من دون الاقتراب منها ومعالجتها وتفكيك ما فيها من ألغام معجونة بالدماء التي طاولت كل قرية وكل مدينة في مصر، ولم يحاسب عليها أحد.

جدير بأنفار "الحوار الوطني" أن يتلفتوا حولهم ويروا الحصاد المر للدماء المسفوكة بلا ثمن، وسيجدون أنّ الكل خاسر، إلا الكيان الصهيوني، وأنّ من المستحيل أن يتوقع أحد بناء وطن إنساني ومستقر فوق بحيرة من الدم.

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا