هل نبتسم للحياة؟

هل نبتسم للحياة؟

02 ديسمبر 2020
+ الخط -

غاب عنّي مدة طويلة، بعد أن انقطعت أخباره، وشغلتنا الحياة بمشاكلها فلم أعد أراه، وكان يتردّد عليَّ بين الحين والآخر، يستشيرني في بعض أموره الصحيّة والشخصيّة، وكانت تعجبني فيه روحَه المرحة، يتقبّل النكتة بصدرٍ رحب، ولو أنّه كان مفرط الحساسية، لا يجيد اللفّ والدوران، ولا فنون الرياء والنفاق، صريحاً غاية الصراحة، لا يَعرفُ الخبثَ إلى قلبهِ سبيلا..
وألتقي معه مصادفة بعد طول غياب، فإذا به قد تغيرت أحوالَه، وضاعت الابتسامة من وجهه، التي كَسته تجاعيد الزمن، واشتعل رأسَه شيباً قبل الأوان، فتعجبت لهذا التغيير الذي طرأ عليه، وبما فعلته به الأيّام، وما ابتلى به من أمراض وأسقام، وفقدانَه الثقة بأقرب الناس إليه، وابتدرني بقول أبي فراس الحمداني:

بِمَنْ يَثِقُ الإنْسَانُ فِيمَا يَنُوبُهُ ..
وَمِنْ أينَ للحُرّ الكَرِيمِ صِحَابُ؟
وَقَدْ صَارَ هَذَا النّاسُ إلاّ أقَلَّهُمْ ..
ذئاباً على أجسادهنَّ ثيابُ
تَمُرّ اللّيَالي لَيْسَ للنّفْعِ مَوْضِعٌ ..
لديَّ ولا للمعتفينَ جنابُ

فقلت له هوِّن عليك نفسك، ولا تجعل الدنيا أكبرَ هَمَك، وغاية أمَلك فالأيام يومٌ لك ويومٌ عليك، إن أقبَلْتَ عليها أدبرتْ عنك، وإن أعرضتَ عنها جاءتك طائعةً مختارة، وازهد في الدنيا يَحبك الله، وازهد في ما عند الناس يحبك الناس.

ولن تجد من بين من تقابل من الناس الصديق الصادق الصدوق. الذي ترسم له صورة ملائكية في مخيلتك، والذي تجده في كل وقت طوع أمرك، ورهن إشارتك.

ألـــم تسمع بقول بشار بن برد:

إذا كنت في كلِّ الأمور معاتباً .. 
صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أو صل أخاك، فإنه ..
 مقارفُ ذنبٍ مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى .. 
ظمئتَ وأي الناس تصفو مشاربه
إذا الملك الجبّار صعَّر خدّه ..
 مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا .. 
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

أما عن الأمراض النفسية فحدّث ولا حرج، فعندك الاكتئاب بأنواعه، وما يؤدي إليه من مآس تنعكس آثارها على جميع أعضاء الجسم كالصداع بأنواعه، وعسر الهضم، والإمساك، وفقدان الشهية

قال لماذا يأكل الحسدُ قلوب الناس، ويَعمِي الحِقد بصيرتهم، والله هو موزّع الأرزاق؟

قلت له على قدر ما أصابك من نجاح، سوف تجد من يحقدُ عليك، وقد يكون الحسدُ من شخص أبعد ما يصل إليه الشكّ منك، وأقرب ما يكون إليك تودداً، وأكثر الناس استفادة منك.

(فمن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا، ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام. وإذا تولَّى سَعَى في الأرض ليفسد فيها، ويُهلك الحرثَ والنسلَ واللهُ لا يحب الفساد).

يقول الشاعر عبد الله بن المعتز:

اصبر على كيد الحسود فإن صَبركَ قاتله...
النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله

قال والعجيب في الأمر أنّه كلّما زاد طغيان الإنسان، زاد منصباً وجاهاً ومالاً، فيزداد في طغيانه.

قلت له ألم تقرأ قوله تعالى: (كُلّاً نُمدُّ هؤلاءِ وهؤلاءِ من عطاءِ ربك، وما كان عطاءُ ربّك محظوراً).

والله تبارك وتعالى يُمهِل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.. (ولا تحسبَنَّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليومٍ تشخصُ فيه الأبصار مُهطعين مُقَنعي رءوسهم لا يرتدُ إليهم طرفُهم وأفئدتُهم هواء).

فبقدر إيمانك بالقدر خيره وشره، وصفاء سريرتك، وعفوك عمّن ظلمك، والاستعاذة بالله من شر حاسد إذا حسد، بقدر ما يكفيك الله شرّ كثير من أمراض العصر، لا أوّل لها ولا آخر..
وإذا استمرت بك الأحوال على هذا المنوال، تحمل هموم الدنيا فوق قرنيك، وترى العالم مظلماً أمام عينيك، أصابك من الأمراض ما لا طاقة لك به، ووقعت فريسة بين براثن الأطبّاء، فإن ثلاثة أرباع أمراض هذا العصر، هي حصاد ما يعانيه الناس من فكر وكرب وهموم وشجون، وجرى ركض وراء المال حتى تنقطع بهم الأنفاس، ولعلك تسمع عن أمراض القلب كالذبحة الصدرية، والسكتات القلبية، وانسداد الشرايين التاجية، وارتفاع ضغط الدم، وجلطات الدماغ وانفجارات شرايين المخ، والشلل النصفي، ومرض السكري، وقرحة المعدة، والسرطان، والقولون العصبي، وغير ذلك من  الأمراض العضوية الخطيرة.

أما عن الأمراض النفسية فحدّث ولا حرج، فعندك الاكتئاب بأنواعه، وما يؤدي إليه من مآس تنعكس آثارها على جميع أعضاء الجسم كالصداع بأنواعه، وعسر الهضم، والإمساك، وفقدان الشهية.

ولا أريد أن أزيد في همومك، وإن شئت ملأت لك الصفحات من الأمراض والعلّات، التي تصيب الإنسان إذا ما ترك نفسه للهموم والأحزان، ولم يبتسم للحياة، ولم ينْس نصيبه من الدنيا.

وحذار أن تسوّل لك نفسك بأن تصدّق ما تعرضه الأفلام السينمائية، أو المسلسلات التليفزيونية، من حكايات وخرافات، فتصور البطل أو الحبيب، عندما تصيبه مصيبه في حبّه، وتغدر به محبوبته، كأن الدنيا قد انقلبت على رأسه، وأصبح حزيناً مهموماً، يُغنّي أغاني كلّها نَحيب وبكاء، ثم يزين له رفاق السوء، ارتياد الحانات والبارات، فيغرقُ حتى أذنيه في منقوع "الصُرَم"، بين الكأس والكأس، بحجّة الهروب من واقع الحياة، ولكنه في واقع الأمر كالمستجير من الرمضاء بالنار، ويكون قد خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.

وقد أثبت أحد البحوث التي أجرتها بعض كليات الطبّ الأميركية على قطاعات مختلفة من الناس، أجريت لهم اختبارات نفسية وطبية، أن المتشائمين الذين ينظرون على الدنيا بمنظار أسود، أكثر إصابة بارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب، من نظرائهم الذين لا يحملون للدنيا ومصائبها همَّاً ولا فكراً، ولذلك تكوّنت جمعيات وأندية مختلفة للترفيه عن أعضائها، واشراكهم في برامج وتمثيليات وندوات فكاهية ينسون فيها الدنيا وبلاويها.

لذلك أوصيك بأن تكون باشَّ الوجه، دائم الابتسامة، ودع التكشير والعبوس حتى لا تزداد تجاعيد وجهك، ولا تصيبه الشيخوخة قبل الأوان، فالابتسامة تفتح لك جميع الأبواب، ولن يكون العبوس والتكشير مظهراً من مظاهر الوقار أو الاحترام، ورحم الله عبداً سمحاً في كل معاملاته وتصرفاته، فإنك لن تسع الناس بأموالك ولا جاهك، وإنما يسعُهم منك بَسطُ الوجه وحسنُ الخلق.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.