هل كان عمر بن الخطاب مستبداً عادلاً؟ (1/2)

هل كان عمر بن الخطاب مستبداً عادلاً؟ (1/2)

29 سبتمبر 2021
+ الخط -

كان ينبغي وأنا أقرأ مقالة أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي المنشورة في العدد الماضي من مجلة (الهلال) تحت عنوان (الشرق والمستبد العادل)، أن أتذكر أن المقالات ـ كباقي الأمورـ بخواتيمها ونتائجها لا بمقدماتها واستهلالاتها، لكن حبي الشديد لكتابات أستاذنا د. البيومي جعلني أستبشر خيراً، لأن ثائراً عظيماً مثل السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله وجد بين أحفاده وتلامذته من يهب لتبرئة ساحته من تلك المقولة الشنيعة التي ألصقت به، والتي تزعم أن "الشرق لا ينهض به إلا مستبد عادل"، فها هو الدكتور البيومي يطمئننا نسبة إلى مصادر موثوقة، على رأسها محمد المخزومي باشا، أحد تلاميذ الأفغاني، أن الأفغاني تبرأ من تلك العبارة عندما سُئل عنها، وقال إنه كان يقصد أن مصر والشرق لا يحيا أي منهما إلا إذا أتاح الله لهما رجلا قوياً وعادلاً، وأن المطلوب لنهضة الشرق "هو القوة لا المستبد، لأن الاستبداد يتنافى مع العدالة والحرية"، طبقاً لنص ما نُقل عنه.

ولكن، يا فرحة ما تمّت، فها هو الدكتور البيومي يقول لنا إن العبارة التي نُسِبت خطئاً إلى الأفغاني، قد ثبتت على تلميذه الشيخ محمد عبده، الذي قال في إحدى مقالاته إن "الشرق لا ينهض به إلا مستبد عادل يتولى مقاليد الأمور فيه خمس عشرة سنة تنثني فيها أعناق الكبار إلى ما هو خير لهم ولأعقابهم"، بل إن الإمام محمد عبده تساءل في ذات المقال متحسراً مشتاقاً: "...هل يعدم الشرق مستبداً عادلاً في قومه يتمكن به العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرناً".

وكنت قد توقعت ـ أو تمنيت ـ أن ينبري أستاذنا د. البيومي لتفنيد مقولة الإمام محمد عبده، ولو من باب اعتبارها حكماً عاطفياً انفعالياً لمصلح عظيم ضاق صدره بما في الشرق من انحطاط وضياع وهوان، خاصة أن ما أنهى به الإمام محمد عبده حديثه لا يبدو إلا كتشبيه فرضته ضرورات البلاغة، فلا يعقل أن يعتقد الإمام محمد عبده ـ وهو من أبرز دعاة العقل والعلم وقد دفع في سبيل إرسائهما من الأثمان الكثير ـ أن العقل لن يكون مجدياً طيلة خمسة عشر قرناً بعكس الاستبداد الذي يمكن أن يصنع المستحيل في خمس عشرة سنة، فحديثه هنا بالتأكيد أقرب إلى البلاغة الساعية لتقريب المعنى إلى ذهن القارئ أكثر من كونها مبدأ ينحاز إليه، خاصة أنه لا تعارض من البدء بين العدل والعقل.

لكن الدكتور البيومي مع الأسف وضع حكماً مسبقاً على من قد يعترضون على عبارة الإمام محمد عبده، حين قال إنه سيجيب على أسئلة ثلاثة توضح ما يقصده الإمام، ثم أضاف قائلاً: "ونترك بعدها ما يلهج به المتشنجون من انفعالات لا تقف عند حد، لأنهم يتحدثون فيما لا يدركون". وليمنعنا الحب وحسن الظن من أن نسيء فهم استخدام أستاذنا لهذه العبارة دون أن يترك لقارئه حق متابعة فكرته والحكم عليها، ولذلك فلتكن الضرورة البلاغية حجتنا هنا أيضاً، خاصة والدكتور البيومي يقول لنا إن هناك "ظروفا أليمة دفعت الإمام محمد عبده إلى هذه الرأي"، وهو ما يعني أنه في قرارة نفسه يختلف مع الإمام محمد عبده في رأيه هذا، أو هذا ما نفهمه عند قراءتنا لهذا الجزء من مقاله، خاصة وهو يصف لنا في إيجاز بديع كيف تقلبت الظروف والأحداث بالإمام محمد عبده من صاحب كلمة مسموعة في المجتمع ورأي محترم لدي أولى الأمر إلى سجين سياسي ومنفي، وكيف خاب أمله في تكوين رأي عام مستنير، خاصة وأن أحداً من الشعب (الذي كان الإمام يؤكد دائماً حقه في ولاية شؤونه) لم يستنكر ما تعرض له من سجن ونفي، وبينما بذل الإمام وسعه في المدافعة عن هذا الشعب فقد جزاه الشعب نكراناً وجحوداً، ولذا فإن هذا الشعب لم يعد يستحق أن يطالب له الإمام بحقه في إدارة شؤونه، فصار الحل بالنسبة لهذا الشعب "مستبدا عادلا" يحكمه 15 سنة ليصلح حاله و"يعالج ما اعتل من طباعه".

العجيب أن الدكتور البيومي سارع إلى مدح هذه الشروط والاعجاب بها، قائلاً إن الانفراد بالأمر إنما يُمدح أو يُذمّ وفقا لاتجاه صاحبه، وأن الشيخ محمد عبده يمدح المنفرد إذا اتجه إلى العدالة والإنصاف وحب الشعب، وإذا لم يتعد حكمه أكثر من 15 سنة

وقد توقعت ـ توقع التلميذ الخير من أستاذه الذي يبجله ـ أن يعتبر الدكتور البيومي موقف الإمام محمد عبده انفعالاً عاطفياً خاطئاً لأنه نبع من خيبة أمله في شعب كان ينتظر منه الإنصاف، فلما لم ينصفه ـ شأن أغلب الشعوب مع مفكريها والحالمين فيها ـ أخذ يحلم بمستبد عادل يصلح حال هذا الشعب، في حين أن أستاذه جمال الدين الأفغاني ـ كما يقرر الدكتور البيومي بنفسه ـ وبرغم كل ما تعرض له من أذى، لم يكل ولم يمل عن العمل والمجاهدة اليومية في سبيل الحرية، واعتبر أن اتجاه تلميذه إلى التخلي عن النضال اليومي من أجل الحرية واستبداله بالعمل الإصلاحي الذي يؤتي ثماره على المدى الطويل ليس سوى "خذلان" لم يكن يأمله ويتوقعه.

لكن الدكتور البيومي فيما يبدو يحب الإمام محمد عبده حبا جماً، نشاركه فيه، وإن كنت لا أرى عيباً في ذكر أخطائه، وعلى رأسها موقفه من التعاون مع اللورد كرومر، وتعامله مع الإنجليز في مرحلته الفكرية الثانية، وهو موقف لم أتوقع أن يقوم الدكتور البيومي بتبريره والتماس الأعذار للشيخ محمد عبده فيه، بل والانحياز لموقفه على حساب آخرين، مثل جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي، ليصل في هذا الانحياز إلى حد القول إن محمد عبده كان أقدر على فهم الأصول اللغوية في العربية والتفسير من الأفغاني، الذي "لم تجُل بخاطره دقائق جالت بخاطر محمد عبده"، وهو رأي لا يتسق مع الوقائع التاريخية التي تقضي أن عددا كبيرا من أبرز علماء العربية والتفسير والفقه من المسلمين الذين جاءوا من أصول غير عربية، وهو ما يؤكد أن فهم العربية لم يكن أبدا مرتبطا بالأصل العربي.

مع الأسف أيضاً، وقع الدكتور البيومي في خطأ لا يليق بمكانته العلمية، حين قال إن محمد عبده فهم الاستبداد بأنه (الانفراد بالأمر) طبقاً لجميع كتب اللغة، ولم يفهمه كما فهمه الكواكبي في كتابة (طبائع الاستبداد) على أنه التغطرس والتجبر، والحقيقة أنه لو رجع إلى كتاب الكواكبي ـ صفحة 30 طبعة دار النفائس ـ لوجد أن التعريف الذي يثبته الكواكبي للاستبداد هو "اقتصار المرء على رأي نفسه فيما تنبغي الاستشارة فيه"، أي أن الكواكبي اتفق مع الفهم الذي نسبه الدكتور البيومي إلى الإمام محمد عبده وهو أن الاستبداد هو الانفراد بالأمر، لكن الفرق هنا أن الكواكبي الذي اكتوى أيضاً بنار الاستبداد والانفراد بالأمر قد خصص كتابه كاملا لمحاربة اقتصار الحاكم على رأي نفسه وانفراده بالقرار، في حين أن الشيخ محمد عبده أخذ يضع شروطاً إنشائية تبرر للمستبد أو المنفرد بالأمر استبداده وانفراده بالقرار، وهي شروط أشبه ما تكون بالبيانات الأولى لكل الثورات العربية التي تحمل أجمل الأهداف والأمنيات، ثم تنقلب بعد سنين إلى كوابيس مروعة تتمنى الشعوب أن تنزاح على خير

العجيب أن الدكتور البيومي سارع إلى مدح هذه الشروط والإعجاب بها، قائلاً إن الانفراد بالأمر إنما يُمدح أو يُذمّ وفقا لاتجاه صاحبه، وأن الشيخ محمد عبده يمدح المنفرد إذا اتجها إلى العدالة والإنصاف وحب الشعب، وإذا لم يتعد حكمه أكثر من 15 سنة، لأن تلك هي المدة التي ينشأ فيها جيل يعرف حقوقه وواجباته، ولأن الشيخ محمد عبده لم يُشفع هذا الكلام الإنشائي الحالم بمثال واحد من التاريخ، يحدثنا عن حاكم منفرد بالرأي كان عادلاً مع شعبه وراغباً في ترك الحكم بعد مدة معينة، فقد تطوع الدكتور البيومي ليعطي مثالاً على كلام الإمام عبده، ويا ليته ما تطوع، حين اختار الفاروق عمر بن الخطاب كمثال يصفه بأنه كان "متفردا قويا"، مع أنه بعد سطور يقرر أن عمر رضي الله عنه كان يجمع حوله الصحابة دائماً ليستشيرهم فيما يستجد من شؤون وقرارات، وعلي حد علمي فإن الاستشارة تناقض التفرد وتنفيه، لكن الدكتور البيومي رغم ذلك يصف عمر رضي الله عنه بالتفرد.

وربما كنت سأريح نفسي والسامعين والقراء لو قلت للدكتور البيومي: "طيب يا أستاذنا، هات لنا حاكماً مُبشّراً بالجنة يمشي الشيطان في واد غير الذي يمشي فيه ويفرّق بين الحق بالباطل، ونعدك ونعد شيخنا محمد عبده أننا سنجعله ينفرد وينثني بحكمنا إلى ما شاء الله"، لكن حاشا لله أن نسلم بأن عمر بن الخطاب كان "متفرداً بالحكم" أبدا، ولن تتسع المساحة لذكر الوقائع المتداولة عن عدل عمر رضي الله عنه، فأستاذنا البيومي أعلم بها مني، ولعله سيحتج عليّ بأن العدل ليس ضد التفرد، لكني أؤكد له أن الفاروق عمر كان أول من أدخل في التاريخ الإسلامي مبدأ تقسيم السلطات وعدم جمعها في يد واحدة وعدم الانفراد بها، ولعل أستاذنا يقبل من تلميذ له نصيحة بالعودة إلى دراسة تاريخية بديعة لمفكر سوري هو الدكتور أيمن إبراهيم اسمها (الإسلام والسلطان والملك) صدرت عن دار الحصاد في عام 1998، تناول فيها بالتفصيل اعتماداً على مصادر المؤرخين الثقات دور سيدنا عمر في إنشاء تنظيم وتأطير لسلطات الدولة وتوزيع هذه السلطات على الأكفاء من صحابة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، بل إنه حتى عند إنشائه لهذه السلطات الجديدة مثل نظام العرافة والديوان ـ كما ينبئنا الطبرى والبلاذري وغيرهما ـ أفسح المجال لمناقشات واسعة ومتشعبة وعنيفة أحياناً اشترك فيها كبار الصحابة، ووصلت أحياناً إلى حد الخلافات الجذرية، عندما طُرحت فكرة إدخال جميع الأعاجم المسلمين في الديوان، وفي كل هذا وغيره ما ينفي تماما صفة التفرد بالحكم عن عمر بن الخطاب، وما يبطل الاستدلال به على إمكانية وجود مستبد عادل أو متفرد عادل. لاحظ أن الدكتور البيومي أورد سيرة عمر في إطار الإجابة على سؤال حول إمكانية وجود المستبد العادل، وحاشا لعمر بن الخطاب أن يكون مستبدا أو حتى متفردا بالحكم والقرار.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.