هل قلنا كل شيء؟

هل قلنا كل شيء؟

04 يناير 2021
+ الخط -

ها قد انقضت سنتنا أخيراً، وغادرتنا غير مأسوف على رحيلها. عشنا فيها أحداثاً وفواجع كما لم نفعل في حياتنا من قبل. سنة تعطلت فيها أعمالنا وتباعدت أجسادنا، وكان أن جربنا أنماط عيش جديدة؛ فلزمنا البيوت مذعورين وحملنا الأقنعة خارجها.

وكان من أصعب ما مرّ به الناس خلال السنة المنقضية حرمانهم حياتهم الاجتماعية، وهو ما لم يعهدوه ولم يتقبلوه بسهولة. وللتخفيف من وقع ذلك عليهم، سعوا إلى تكثيف الاتصال والتواصل في الفضاءات الافتراضية. وهناك اتخذوا لهم حياة موازية؛ تبادلوا فيها التحايا والأخبار والأدعية. لكن الحماسة لهذا التواصل سرعان ما خبت بعد أن طال الأمد بالنساء والرجال وبدأ الموت والملل يحاصر الأحياء والبيوت.

وشيئاً فشيئاً قلّ التفاعل مع أحداث الحاضر، ليولي الأصدقاء وجهتهم صوب الماضي، فطفقوا يستدعون أخباره بكثير من الحب والحنين. وكالنار في الهشيم انتشرت صفحات ومجموعات مهتمة بماضي المدينة والحي والمدرسة، فتقاسم الأعضاء أرشيفهم وأدلى الجميع بدلوه: هذه بيوتنا قديماً، وتلك صورنا، وأولئك أصدقاء طفولتنا ولعبنا.

مع مرور الوقت، تراجع الحماس لذكريات الماضي، خصوصا بعد أن خفت قيود الحجر الصحي، فعدنا لحاضرنا نغترف مما تتيحه لنا أيامه

في المرحلة الابتدائية عشنا البراءة، قال قائل. وفي الثانوية كانت أجمل أيامنا، أضاف آخر. أفضل مدرس كان صاحب الإنكليزية، حسب ما أخبر به أصدقاء الدراسة في إحدى المؤسسات. أما عن أطعمتنا، فقد كانت الألذ، وكذلك كانت أعيادنا. وغير هذا كثير، فقد بدا الأمر أشبه ببوح من اقتربت نهايته؛ مزيحاً بذلك ثقلاً كبيراً عن كاهله، ومؤدياً الأمانات إلى أهلها.

وهكذا وفي ظرف وجيز قال الناس وتشاركوا أشياء كثيرة حظيت بحفاوة كبيرة في تلقيها من طرف الأصدقاء. فقد ذُكِّر الكثيرون بأخبار جميلة كانوا قد نسوها، كما وقع آخرون على صور تعود لطفولتهم لم يعلموا يوماً بوجودها. هذا غير ما تمّ من صلة للرحم وتجديد لأواصر صداقة كانت متحققة في زمان مضى.

ودون أن يسعوا في ذلك، وفر هؤلاء وأولئك معلومات ذات قيمة كبيرة بالنسبة إلى المهتمين بالدراسات الاجتماعية والتاريخية وغيرها، فهي تفصح عن تفاصيل لم يكن ليحلم الباحث المتخصص بالوصول إليها يوماً. فقد تشاركوا بجانب سردياتهم عدداً لا يُحصى من الصور والوثائق، كان بعضها على قدر كبير من الأهمية.

لكن مع مرور الوقت، تراجعت الحماسة لذكريات الماضي، خصوصاً بعد أن خفّت قيود الحجر الصحي، فعدنا إلى حاضرنا نغترف مما تتيحه لنا أيامه. لكن عودتنا جاءت بعد أن سردنا وشاركنا الآخرين الكثير مما اعتبرناه يوماً ثروتنا غير المادية، وهو ما يجعلنا نتساءل عما إذا كنا قد قلنا كل شيء، وإن كانت حماستنا لماضينا قد أفقدت حياتنا خصوصيتها وحميميتها وجعلتنا مكشوفين.

ولا أخفيكم أنني أجد بعضاً من الأجوبة عن هذه التساؤلات إيجابياً. يزكيه لدي ما يقوم به الناس على مواقع التواصل من مشاركة لأمور حلهم وترحالهم، إذ يعرضون لباسهم وطعامهم ولحظات فرحهم وحزنهم. فماذا أبقينا لأنفسنا إذاً؟