هل انتهى عصر التنمية الدولية؟
بعيدًا عن عته "الفوضى الخلاقة" التي ابتدعتها الإدارات الأميركية، كان الخبير الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر هو من صاغ مصطلح "التدمير الخلاق" وصفاً مُختصراً للطريقة الفوضوية التي تنتهجها السوق الحرّة من أجل التقدّم والازدهار، إذ طرح في كتابه "الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية" (1942) فكرة أنّ التطورات الاقتصادية والتكنولوجية (وأضيف جدعنة من عندي الجيوسياسية) لا تؤدي بالضرورة إلى موت القطاعات، بل إلى إعادة تشكيلها عبر الإبداع والابتكار، فالقطاعات قد تتقلّص أو تتغيّر طبيعتها، وقد تفقد قدرتها على توليد فرص العمل والنمو بنفس المعدلات السابقة، لكن الفرص لا تختفي بل تتحوّل لمن يستطيعون التأقلم وإعادة إنتاج أنفسهم.
وعند النظر لأعمال ألفين توفلر نرى أنّ الثورة الصناعية لم تلغ الزراعة، وبقيت الصناعة بعد الموجة الثالثة وعصر المعلومات، فكلّ حقبةٍ اقتصادية أو صناعية لا تلغي ما قبلها تمامًا، بل تستوعب أجزاء منها (إلا إذا انتفت الحاجة لها)، بشرط التكيّف وأن تصبح القطاعات أكثر تطوّرًا وتخصّصًا. فعالم البشر بُني على عجلةٍ دائمة الدوران تُدمّر باستمرار البنى القديمة، بينما تخلق مكانها بنى جديدة.
خلال الأسبوعين الماضيين، طُرحت العديد من التوقّعات حول مستقبل العمل في مجالاتِ التنمية الدولية والمساعدات الخارجية. وقد استندت بعض هذه التوقّعات إلى تحليلاتٍ منهجية تستند إلى دراسة التطوّرات التاريخية واستشراف الاتجاهات المستقبلية، بينما افتقرت توقّعات أخرى إلى أساسٍ تحليلي متين، فقد بدت أقرب إلى اجتهاداتٍ شخصيةٍ لا تعكس فهمًا عميقًا لطبيعة هذا القطاع وتعقيداته المختلفة. وهنا لا بد أن نذكر أنفسنا أنّ التعميمات المُطلقة حول مستقبل القطاعات الاقتصادية غالبًا ما تفتقر إلى الدقة وتعكس منظورًا شخصيًا محدودًا لا يأخذ بعين الاعتبار العوامل الديناميكية التي تؤثّر على تطوّر الأسواق والقطاعات المختلفة. في الواقع، طالما لم تحدث تحوّلات جذرية كتلك التي أحدثتها الثورة الصناعية أو الرقمية وأدّت إلى وأد قطاعاتٍ محدّدة، فإنّ أيّ قطاع سيظل قادرًا على توفير الفرص لأولئك الذين يمتلكون القدرة على التكيّف واستغلال التحوّلات الحاصلة داخله، حتى إن تضاءلت هذه الفرص مقارنةً بالسابق.
الفرص لا تختفي بل تتحوّل لمن يستطيعون التأقلم وإعادة إنتاج أنفسهم
بالتأكيد ستفرض اضطرابات التدمير الخلاق واقعًا مختلطًا يوجب علينا محاولة إدراك الخير الذي قد ينبع من هذه الاضطرابات دون إغفال الخسائر المتوقّعة. فمع مرور الوقت، تصبح القطاعات التي توفر مساحة للتدمير الخلاق أكثر إنتاجية وثراءً؛ وفي حالة التنمية الدولية والمساعدات الخارجية قد ننتقل لنماذج تمويل أكثر استقلالاً وأقل تبعية، نماذج أكثر وطنية ومحلية، نماذج يرى المستفيدون والعاملون فوائد التوجّهات والخدمات الجديدة التي تقدّمها، ويلمسون فيها الاستخدام الأفضل للموارد، والتوافق مع السياقات المحلية، ولربّما وظائف أفضل، ومستويات معيشة أعلى.
على الرغم من ذلك، لا يمكننا تجاهل الأضرار الجانبية، والتي قد تكون كارثية مرحليًا، فهنا تكمن مفارقة التقدّم. فلا يمكن لأيّ مجتمع أو قطاع أن يجني ثمار التدمير الخلاق من دون أن يتقبّل حقيقة أنّ بعض الأفراد قد يعانون وتزداد حالهم سوءًا، ليس في الأمد القريب فحسب، بل ربّما إلى الأبد، أدرك تمامًا كم يبدو هذا قاسيًا على الكثيرين، ولكن هذا هو الواقع الذي يجب أن نستعدّ له.
ولربما تستقيم الأمور قليلًا عندما نأمل بأنّ موارد مصادر أخرى ستسدّ الفجوات أو بعضها، وعندما نتذكر أنه من الطبيعي أن يواجه البعض تحديات مهنية تدفعهم نحو البحث عن مساراتٍ وظيفية أو موارد جديدة، وهو أمر يحدث باستمرار على نطاقٍ واسع، إذ ينتقل الملايين من الأفراد بين القطاعات والمهن سنويًا نتيجة لعوامل اقتصادية وتقنية واجتماعية متغيّرة. وعليه، فإنّ من الضروري الابتعاد عن إصدار الأحكام القاطعة حول "موت" أو "زوال" القطاعات، واستبدال ذلك برؤية أكثر مرونة تعتمد على التحليل الموضوعي للاتجاهات الاقتصادية والقدرة على التكيّف مع المتغيّرات.