هل آن أوانُ الكتابة؟
تلبس الحكايات زيّ أصحابها، تقفز أمامنا وكأنها تقول لنا، ها أنا ذا حاضرة، هلمُّ إليّ. ونحن ماذا نفعل في مواجهة هذا السيل المتدفق من الحكايات؟ باتت مسامعنا مثقلةً بوقع الحكايات، هل من متّسع للعزاء؟ أم أن توالي الحكايات يجعلها تفرّ سريعاً من بين أسماعنا لتلتحق بسردية عامة تخاف نسيان تفاصيلها، وتأبى الصمت. الأمر الأكثر وضوحاً هو تناغم الحكايا رغم بؤس تفاصيلها، رغم كل الحزن الغاشم الكامن فيها، تخيّلوا أن نعلن بأن كل القصص السورية عن الموت والخراب والتعذيب والرحيل متناغمة، وهل بات مقبولاً أن تتناغم حكايات الموت السوري ليكتمل المشهد ويحوز صفة البلاغة المُحكمة؟ لا سرديات مقابلة تنقض التفاصيل، بل امتداد موازٍ لتفاصيل غابت عن الحكايات في الجهة المقابلة! قلب يبكي يواجه فماً يروي، والنتيجة عصارة مختمرة من اللعنات ومن الغضب.
هل آنَ أوانُ الحكاية؟ الجميع ينتظر لحظة الإعلان، ليس فقط لمباشرة الكتابة وليس لطيّ صفحة الماضي، بل لإعادة صياغة الواقع عبر رُواته الحقيقيين، عبر الضحايا الذين تنوب صورهم عنهم الآن. إنه الوقت اللازم لتترجّل الصور وتَكتب. والحكاية هنا موجودة، تنتظر لحظة الإطلاق والإعلان، ثمّة فرق كبير بين إعلان الصور وبين إعلان ما ستقوله الصور، ما ستكتبه الصور وهي تترجل بعناد وإصرار؛ كي لا تتحوّل إلى مجرد أرشيف رقمي، وكي لا تخون الحكايات الصامتة أصحابَها.
تروي حكايات البلاد المستباحة بالاستبداد والمجازر تفاصيلَ المقتلة، لكنّ قوة الصورة تحضر بصمةً على كل ما حدث، الصمت هنا عدوّ المستقبل ومصادرة للحقيقة
تمتاز الحكاية السورية بأنها تجاوزت زمن البوح، وفي كلّ إفصاح عن الحكاية، تلوح قوة واضحة ترفض النسيان وتصوغ الحكاية كما يليق بزمن جديد.
بالأمس أفصح بطلٌ سوري هرّب آلاف الصور للشهداء المعتقلين عن حكايته، مع قرار اتخذه بالهروب مع كل هذا الإرث للمجزرة السورية. تخيّلوا أن تصير المجازر إرثاً ينبغي حفظه وصونه وتهريبه رغم كل المخاطر، لأن زمناً ما ينتظر إطلاقه. آن الأوانُ للإعلان الآن، ليس عن موت الضحايا ولا عن حزن البلاد ولا عن وحشية القتلة فحسب، بل آن أوانُ الحكاية لتكتمل أركانها، رواةً وشهوداً، زماناً ومكاناً، صوراً وتجهيزات وأنهاراً من العنف المعلن، الذي تزامنت لحظةُ توقّفه مع لحظة الإعلان عنه، عن فظاعاته، عن تفاصيله، وعن سؤال لا بدّ من طرحه الآن: وماذا بعد كلّ هذا الإفصاح؟
إنّه زمن الكتابة الذي لن يسامح كل من يخون النداء ولا يكتب.
تبدو الأنهار الممتدة من صور المجازر اعترافاً أولياً بما حصل، وهو قاعدة أساسية لتوثيق رحيل الضحايا ومواساة أهلهم. الموت هنا ليس حدثاً طبيعياً مُدراً للدموع والحسرات؛ الموت هنا جزء مفصلي من تاريخ البلد ومن حيوات أهله. لقد آن أوانُ الكتابة إذن! كل صورة هي كتاب يستحق تدوينه، كل صورة هي خيوط متشابكة بين التاريخ والجغرافيا والوجود الزماني والمكاني للضحايا وللقتلة أيضاً، آن أوان الحكاية كي لا نتعب من الحكْي، وكأنّ لكل حكاية وقتاً محدداً سينتهي عند رنة جرس الحكم.
تروي حكايات البلاد المستباحة بالاستبداد والمجازر تفاصيلَ المقتلة، لكنّ قوة الصورة تحضر بصمةً على كل ما حدث، الصمت هنا عدوّ المستقبل ومصادرة للحقيقة. تخيّلوا حقيقة واحدة روتها الصور بالأمس عبر البطل الذي هرّبها، لكلّ صورة أرقام ثلاثة؛ رقم الضحية بعد إغفال اسمه عمداً تمهيداً لإنكار وجوده، رقم الفرع الذي اعتقله، ورقم التقرير الطبي الذي أثبت رحيله!. ليست حربَ أرقام ولا هي أرقامٌ مجردة، فكلّ رقم هو حكاية متسلسلة، وكل رقم ينقل الحكاية إلى سياق أحدث، تخيّلوا فقط أن يكون أحدث سياق هو النهاية، أي الموت تحت التعذيب، تخيّلوا أننا نواجه كل هذه الأرقام ونقف عندها ولا نباشر فوراً بكتابة الحكايات.
لقد آنَ أوانُ الكتابة بعد أن انفجرت الحكايات وصارت بلداً، صارت وطناً.