Skip to main content
هزليات السياسة الأسدية 10

امتاع و مؤانسة

خطيب بدلة
بحسب رواية صديقِنا "أبو الجود"، فإن انتخابات مجلس الشعب صارت بعد يومين من صدور قائمة الجبهة الوطنية التقدمية التي ورد فيها اسمُ ابن قريته "الأستاذ نزار"، وقد نزل اسمُ نزار في القائمة بعدما دفع رشوة كبيرة للمسؤولين في الحزب. ومر يومُ صدور نتائج الانتخابات كالعادة دون أي مظاهر فرح أو بهجة، لأن الاحتفال يكون يوم صدور القائمة، وأما عمليتا الاقتراع وصدور النتائج فهما تحصيل لحاصل.

وأوضح أبو الجود أن حياة نزار، بعد هذه النقلة النوعية، قد انقلبت تماماً، وصار أهل القرية يعرفون، منذئذٍ، (نِزَارَيْن)؛ الأول هو نزار القديم الذي شب وترعرع على خبز الذرة الذي يُعْرَفُ باسم "خبز أبو أَمُّون" وبجواره طبيخ البرغل المسلوق بالماء على نحو حصري.. وكان هو وإخوته ينامون تحت الدلف (الوَكْف) الذي ينقط من السقف بإيقاع رتيب طيلة أيام الشتاء، وكانت والدتُه تنتظر حتى يعتق قميصُ زوجها، فتقصقصه وترقعه وتصغره ليصبح على مقاس نزار، ثم تنقله لأخيه الأصغر، فالأصغر.. وإذا طلب معلمُ الصف منه أو من أحد إخوته شراء دفتر للكتابة فإن القيامة تقوم في البيت، ويفور التنور، وتذوق الأسرة الأمَرَّيْنِ حتى تستطيع شراء دفتر، وبدلاً من تخصيص دفتر صغير لكل مادة دراسية، وجد الأب أن الطريقة الأمثل هي أن يشتري لكل ولد في مطلع السنة دفتراً من فئة الـ200 صفحة، ويخصصه لجميع المواد، ويأمر الولد بأن يكتب بخط صغير لئلا يستهلك مساحة الدفتر قبل انتهاء السنة الدراسية.. ويوم تُغَامر الأسرة بشراء أكلة أمعاء خروف "سخاتير"، يعم الفرح في الأرجاء، وبعد تناول الطعام، تخرج الأسرة عن بكرة أبيها إلى الزقاق، ويستعيرون طبلة "دربكة" من بيت الجيران، ويرقص الشبان الرقصة العربية والقبقلية والكُوْصَر، والبنات يكتفين بالتصفيق والزغاريد، احتفالاً بهذه المناسبة العظيمة النادرة.. وأما نزار الثاني فتبدأ حكايته من يوم أن صار رئيساً للبلدية، فلا شك أنه تغير من الداخل، ولكنه بقي يتظاهر بالتواضع، يمسح أزقة القرية ببصره، وكلما رأى رجلاً أو مجموعة رجال جالسين أمام باب أحد الدكاكين يسلم عليهم بحفاوة، ويجالسهم، ويباسطهم بالكلام، وإذا اشتكوا من تراكم الزبالة، أو كثرة البحص في الشوارع، أو كثرة البعوض والبرغش، يعدهم بحل المشكلة قريباً جداً، وبالفعل يقوم بترقيع ما يمكن ترقيعه، ويعود إليهم بعد ذلك ليقنعهم بأن ما نفذته البلدية من طلباتهم يعتبر جيداً بالقياس إلى الإمكانيات المتواضعة.

المرحلة الثانية نزار الثاني تحول خلالها إلى شخصية استعلائية، خرندعية، يمر بالناس كما لو أنه يمر بكومة حجارة، وبدلاً من تحيته السابقة التي كانت تترافق مع وضع اليد اليسرى على الصدر، وانحناءة في الظهر، صار يمشي عمودياً كما لو أنه بالع عصا، ويسلم برفع حاجبيه قليلاً إلى الأعلى، وإذا سلم عليه أحدٌ يقول: أَلَنْ أَلَنْ.. (يقصد أهلاً أهلاً، بعد بلع حرف الهاء).

قال الأستاذ كمال: ممكن نقول إنه شخصيته تعرضت لتحولات درامية؟

قلت: أنا بشوفْ إنّْهَا تحولاتْ كوميدية مضحكة. لأنُّه عضوية مجلسْ الشعبْ ما فيها ميزة بتبررْ الاستعلاءْ، وهيي مانْها أكترْ أهمية من إدارة مدرسة صغيرة، أو رئاسة بلدية في قرية نائية، وحافظ الأسدْ متلما بتعرفوا حَوَّلْ مجلسْ الشعبْ لجوقة من المصفقين الزجالين اللي واحدهم إذا بتسأله شلونك؟ بيقلك: موافق، وبيحط إيده على إدنه وبيصيح لك موال بيشيد فيه بقيادة حافيييظ الحكيمة!

قال أبو الجود: حتى ما إنسى، بدي أقولْ إن التغيراتْ في شكل نزار وطريقة كلامُه وسلامُه ما بتخوف، الشي اللي بيخوّفْ هوي اللي صارْ بسلوكه، يعني الزلمة صار متلما بتحكوا إنتو المثقفين: حقير. وبالأخير صارت بينه وبين "أبو قسوم" مشكلة كبيرة، وترك القرية بسببها.

قال الأستاذ كمال: مين أبو قسوم؟

قال أبو الجود: واحدْ من أهل الضيعة، عنده أرض زراعية قريبة من المقبرة، وقريبة من أرض نزار، وأنا حكيتْ لكم إنه نزار لما كان رئيس بلدية خَلَّى الطريق العام يمرّ جنب أرضه، فارتفع سعرها كتير، وباعها بمبلغ خيالي. لاكن بنفس الوقت أبو قسوم تضررْ من العملية، والطريق نزل في نصّ أرضُه، وقطعها لأربع أقسام صغيرة، وما عادت تصلح للزراعة، ولا حتى للبناء.. ولما راحْ أبو قسوم لعند نزار وطلب منه يصرف له تعويض مقابل الضرر اللي لحق فيه بسبب شَقّ الطريق قال له نزار: اتركني هلق، لحتى تنتهي انتخابات مجلس الشعب، وبعدها بيصيرْ عندي وقت وبحل لك المشكلة. وبعدما قال له هيك، مسك راسه وصار يبوسه، ويقول له: حقك علي يا أبو قسوم. ولا تاكل هم. أنا عندي ما بيضيعْ حق... لاكن لما رجع نزار من أول اجتماع لمجلس الشعب، مر بالصدفة بأبو قسوم وما سلم عليه، فالرجل طق عقله، وصار يصرخ، ومشي باتجاه نزار ومسكه من ياقة جاكيته وقال له: صرت تتكبر على شَعب ضيعتك يا نزار؟ تذكر أنك لولا هالشعب ما كنت بتنجح ولا بتروح ع المجلس. نزار فلت حاله من قبضة أبو قسوم وقال له: أينا شعب؟ أنا وغيري ما كنا مننجحْ لولا قائمة الجبهة. قال أبو قسوم: طيب يا نزار. منتواجه.

قال كمال: هادا تهديد واضح.

قال أبو الجود: مو بس تهديد. أبو قسوم نفذ تهديده، وراح على المكتب التنفيذي في إدلب، ودفع رشاوي للموظفين، وشاف المخطط الأولاني تبع الطريق، وعرف إنه نزار مشترك بعملية تلاعب مع المهندس والمنفذ، وأخذ صورة تيراج وحملها وراح لعند نزار ع البيت. نزار بمجرد ما شاف صورة المخطط أحس بالعطب. وقال له: أنا بأمرك يا أبو قسوم، اللي بدك إياه بيصير. وخلال يومين دفع له تعويضين، واحد من البلدية وواحد من ماله الخاص. واشترط عليه إنه ما يذيع القصة بين الأهالي. لاكن أبو قسوم أذاعها، واضطر نزار بعدها يترك القرية، لأنه تشوهت سمعته. هههه.. لا تنسوا إنه الحرامية كلهم بيخافوا على سمعتهم. أخي، كل شي إلا السمعة.