هجرة المبدعين

هجرة المبدعين

04 مايو 2021
+ الخط -

العقول المهاجرة، عبارة تطلق على بعض نجباء الأمة في الفيزياء والذرّة والكيمياء والرياضيّات.. إلخ، هذه العناصر العربية المتوهجة التي اجتذبها الخارج فلبّت نداءَه، وغابت في آفاقه، وانصهرت في نسيجه، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من حضارته وغده.

لو أن أوطانهم حققت المستوى المنشود من الرقي، وبلغت كفايتها من التطور، وأقامت المصانع وقواعد التسليح، ووفرت الآلات والاحتياجات التموينية والسلعية الضرورية والكمالية، واستغلت موارد طاقتها ووظفتها في مواقعها الصحيحة، وبالأوجه التي تضاعف ريعها، وتحفظ حقوقها، وتستثمر ثرواتها.. لو حدث كل ذلك، لكان تسرّب بعض العقول العربية إلى تلك الدول الأجنبية أخف وقعاً، وأقل صدمة، ولكن أن يكون حال العرب على ما هو عليه من التبعية والتخلّف، وأن تستعمر أسواقهم من قبل تلك الدول الأجنبية وتهدّد إنتاجهم الوطني بالفشل، وتنافسهم في عقر دارهم، وتدفع اقتصادهم إلى التقوّض والانهيار، وأن تكون دولهم ـ وهي الغنية بثرواتها وإمكاناتها ومقدّراتها وحضارتها ـ مجرد أرض بكر تتلاعب بها الموازين العالمية.. فهنا موضع الاعتراض!

هل تُلام "الأدمغة العربية" في توجهها نحو الغرب؟ وهل يمكن أن تطلق صفة "الهجرة" على هذه الرحلات؟ لا .. بل هي "طرد" و"تهجير" دفعت إليهما دفعاً بالوسائل الودية والقهرية وربما الإرهابية!

لقد أصبح النبوغ تهمة عربية يُطارد من أجلها العلماء في مختبراتهم، ويساءل فيها المخترعون في أبحاثهم، وتصادر طلاقة المفكرين في دراساتهم، وتحوّل وجودهم إلى موضع شك وريبة البيروقراطية والنظم المتخلفة، والأنماط التشويهية التي تحارب التطور وتعتبره ثورة ضد مصالحها، وانقلاباً يمس قاعدة بقائها.

عندما تكون للعقل العربي كرامته، وتكفل له الضمانات التي تحفظ واقعه ومستقبله، وتعامله كمبدع فاعل له دفقاته المضيئة في كيان أمته، حينها فقط ستتشبث الحمائم الفزعة بجذورها

عندما يهرب المفكر العربي إلى الغرب فإنه يلجأ إلى الصومعة التي تحتوي نبوغه، وتدرك مدى قيمته، والتي تهيئ له الحقل الذي يتفرغ فيه لدراساته، ولا ينشغل عنها بأمور تافهة تنفرد باهتمام من يبقى في الوطن، كالمناصب، والصراع الوظيفي، والبحث عن النفوذ، والمكاسب الشخصية، وركامات هائلة من الروتين والجمود والبلادة والتخلف، والمعاملات المحنطة بسوء الأداء، وغياب التخطيط، وضبابية الرؤية، أو الدخول في معارك خاسرة لا تجيد التعامل مع بقايا المعامل والمختبرات، التي إما أن يكون الغبار قد علا أجهزتها لعدم وجود العمالة الفنية المختصة لتشغيلها، وإما أن عدم الصيانة واللاإدراك لقيمتها وما تمثله من بعد علمي سلَّمها لبعض الأيدي اللامسؤولة التي وأدت ما كان فيها من نبض، وإما أن عدم اكتمالها أو ضعف الميزانية المخصصة لها، أو عدم الاقتناع بأهمية تجهيزها أدى إلى تشميعها وتوقيفها عن العمل، ولو كان الاهتمام بالبحث العلمي وارداً.. فهل سيكون مكانه في آخر قائمة اهتمامات مؤسسات الوطن الكبير؟

مهما كانت فداحة هذه الهجرة على الجسد العربي المشروخ، فقد أصبحت الصمام الذي ينفس قليلاً عن التناقضات التي يرزح تحتها، ويضجّ من قسوتها ورعونتها مبدعوه وصانعو مستقبله العلمي المختنق تحت وطأة اللامبالاة الرسمية والشعبية!

لقد أصبحت مكانة المفكر أو المخترع أقل قيمة اجتماعياً واقتصادياً من المستوى الذي ينعم به التاجر أو الحرفي أو الانتهازي أو أي منضوٍ لأية مهنة تدرّ ربحاً مادياً أكثر، ينال بها الحظوة والأهمية والسطوة التي يحرم منها أي موهوب علمياً ليواجه ـ بدلاً من ذلك ـ الازدراء الاجتماعي، وعدم الفهم والاستيعاب للعمل الخلاّق الذي يسعى لتحقيقه، وليصارع عدم نضج العقلية البيئية التي لا تدرك مدى الإسهام الذي سيضيفه هذا العالم إلى حياتها، ويغيّر مصيرها ويرفعها إلى ما يُزكي اقتصادها، ويدعم قوتها بين الأمم الأخرى!!

فإذا كان اللاإحساس بمحاولات النخبة الصاعدة لتغيير الواقع من حولها هو المسيطر والبارز، وإذا كانت المنغصات تنبئ بتعقد الأمور وعرقلتها وتأخير همتها.. فمن الأفضل إذن أن تشرع أجنحتها وتفر إلى البعيد.. إلى الملاذ الذي يكفل لها الأمان والإمكانيات والدعم المعنوي حتى ولو كان غريباً وموحشاً ورطباً.. فبيت العالم هو مختبره، ورضاؤه يكون في معانقته لأدواته وأقماعه، وضمان انهماكه في تركيز وسلام على معالجة نظرياته ومعادلاته.

إذا ضجّ الوطن بهذا العقوق فهو مدعو لولوج معركة التغيير، والانتصار للأطروحات المستقبلية التي تدحر التخلّف والنظرة الضيقة التي تبقي الوطن مكبلاً بالقيود الصدئة لسنوات قادمة جديدة من العبودية والتزعزع والانشطار.

عندما تكون للعقل العربي كرامته، وتكفل له الضمانات التي تحفظ واقعه ومستقبله، وتعامله كمبدع فاعل له دفقاته المضيئة في كيان أمته، حينها فقط ستتشبث الحمائم الفزعة بجذورها، ولن تنطلق أبداً إلى البعيد.

إنَّ وجودهم في تلك الديار الغريبة معناه انحيازهم للإبداع الإنســـــــاني بمعناه الشامل، والتفرّغ لأبحاثهم واكتشافاتهم، وقد توفرت لديهم الحوافز المعنوية والمادية والمناخ العلمي والفكري الذي يحفظ نبوغهم، ويعترف بفضلهم ويهبهم ما يستحقونه من رعاية وإجلال.

تبقى أم تُهاجر..؟ تلك المعادلة التي لن يستطيع أن يحل رموزها سوى الوطن الكبير المشتت، وهو يلعق جراحه ويراقب بأسى تطاحن الأشقاء مخلفين وراءَهم أهم ما يجب الالتفات إليه: نوابغ الوطن ومستقبله العلمي!

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.