نزوح غزة.. إعلان وفاة مؤجلة

06 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 08:08 (توقيت القدس)
+ الخط -

"إنذار عاجل إلى كلّ الموجودين في المناطق التالية: سيهاجم جيش الدفاع الإسرائيلي مناطق سُكناكم. من أجل سلامتكم أنتم مُضطرون للإخلاء بشكل فوري جنوباً نحو المنطقة الإنسانية في المواصي". بهذه الكلمات بدأت حكاية ذلك الصباح المتعب. بدأ سبتمبر/أيلول بطقوسه الجديدة: لحظات مُنهكة، جسد منهك، أصابع موجوعة مرتعشة، صوت يرتجف، أنفاس مجنونة، توازن مختل، أرواح مُرهقة، دموع أثقلها الهمّ وقيظ الثلج، شرود في الذهن، وحواس جميعها مُخدَّرة.

في ركن معتم من هذا العالم، بعيداً عن صخب الحياة، تتكرر الرحلة ذاتها: من الشمال إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى أقصاه. جميعنا نُسحق تحت كلمة واحدة "نزوح". ليست كلمة عابرة، ولا عنواناً في نشرة أخبار تُنسى بعد دقائق. النزوح ليس اختباراً للصبر، بل هو قاسٍ للحدّ الذي لا يعلمه إلا الله، وهو إهانة يومية للحياة، وعقوبة جماعية على حقّها، وانشقاق في جدار الكرامة. إنه فضيحة أخلاقية لا مجرد قضية إنسانية أو مأساة من باب تلطيف الجريمة، وستبقى هذه الجريمة وصمة عار على جبين الحضارة. العالم بأكمله مسؤول عن كل ما يرتكبه هذا الاحتلال النازي أمام أعين الجميع، بينما يكتفي العالم ببيان جديد عن "القلق العميق" تجاه كل ما نُكابده من دموع ونار وغضب وحمم مكتومة وألم لا يُطاق.

ليس هناك ما هو أشدّ ضراوة من أن تُنتزع من بيتك وتُلقى في العراء وتُطالَب بأن "تتأقلم". النزوح هنا لا يشبه أي شيء على الإطلاق؛ إنه ليس مجرد انتقال من مكان لآخر، بل انتقال من كرامة مهدورة إلى مذلة مفتوحة على احتمالات الجوع، العطش، الفزع، الموت، والدمار النفسي الكامل.

كل شيء يتغير في حياة النازح، حتى الزمن. الأيام باتت أطول وأكثر قسوة، والانتظار قاتل، والمستقبل مجهول لا ملامح له. النازح يعيش بين "كان" و"ربما"، يراقب بصمت مُغمّس بالقهر وطنه القديم الذي يُستنزف، والموطن الجديد الذي ليس له وجهة.

النزوح ليس اختباراً للصبر، بل هو قاسٍ للحدّ الذي لا يعلمه إلا الله، وهو إهانة يومية للحياة، وعقوبة جماعية على حقّها، وانشقاق في جدار الكرامة

النزوح في غزة يُولّد ألف معاناة: أم تبكي ابنها الذي فقدته في الزحام، رجل يحفر قبراً لأمه بيديه، لأن المقبرة بعيدة والطريق إليها مفخخة بالموت، عجوز يحمل بقايا عكازه ويمشي بلا وجهة لأنه على يقين تام بأن الأرض كلها مسرح للقتل. وفي كل خطوة يخطوها ثمة سؤال بلا إجابة: أين يمكن أن يُدفن بسلام؟ آخر يجرّ أطفاله الحفاة وسط دخان النيران المُلتهبة، يمضي في طابور طويل من الحزن الجماعي، لا يعرف إلى أين يذهب، ولا متى سيعود، أو إن كان سيعود أصلاً.

في النزوح، الوجوه متشابهة، كلها باهتة منهكة فقدت تعريفها. لا أحد هنا يُنادى باسمه، الكل يُدعى برقم، بخيمة، أو بتاريخ وصول. لا أحد يسأل: "من أنت؟" بل يسألون: "كم فرداً أنتم؟". الكرامة هنا سلعة نادرة، الخصوصية ترف، حتى الهواء يُقاس بالحاجة لا بالرغبة.

الجميع يتزاحم على نقطة لتعبئة المياه، الدواء مفقود، الغذاء شحيح، والكهرباء أصبحت حلماً. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال العالم يتعامل مع كل ما يجري كأنه مجرد "تطور ميداني". أي تطور هذا الذي يُهجّر أكثر من مليون ونصف مليون إنسان خلال أيام؟ أي تطور هذا الذي يجعل الأطفال يفترشون الطرقات والأزقة ويتوسلون الخبز ويتساءلون: لماذا نحن هنا؟ فلا يجيب أحد. أي تطور يجعل الوطن كله يتحول إلى قافلة لاجئين هائمين على وجوههم بلا أمل، بلا كرامة، بلا صوت يُنصفهم؟ أي تطور هذا أيها العالم الفاضل؟

حتى اللغة تنزح حين تتغير المفردات القريبة إلى كلمات مضمخة بالغربة: يتحول "البيت" إلى "خيمة"، و"الجيران" إلى "اللاجئين الآخرين"، و"المدرسة" إلى "مركز إيواء للنازحين". تختبئ القصيدة خلف الجوع، ويصمت الشعر أمام صراخ الاحتياج؛ لكن الأدب في لحظات النزوح لا يموت، بل يتخذ شكلاً أكثر حدّة، أكثر صدقاً، وأكثر وجعاً.

هنا، في الظل، يموت كل شيء في هذه البلاد ببطء. في غزة نحن مُنهكون جداً من أجسادنا المُثقلة بالخذلان، مُنهكون من كل شيء: من المحاولة، من التحمّل، من التظاهر بالقوة، ومن التوازن فوق حياة تميل كل يوم أكثر من سابقه. منهكون من شرح ما لا يُفهم، ومن انتظار شيء لا يأتي.

هنا، تختنق جميع الكلمات وما زلنا نعيش؛ ولكن بنصف قلب، بنصف وعي، وبنصف رغبة في الاستمرار. الكتابة هي سلوانا الفريدة التي نلجأ لها في ظل الأيام القاتمة، نكتب كي لا نضيع، أو على الأرجح لكي لا ننسى أننا ما زلنا نشعر، ولو قليلاً.

دلالات