نحن وبيوتنا

25 نوفمبر 2024
+ الخط -

نعيش صراعاً يومياً مع تفاصيل عيشنا، لا البيوت تعجبنا ولا الرحيل عنها يرضينا! تحصي لمياء عدد الطناجر التي جمعتها من مراكز الإغاثة، أو التي قدَّمها الأصدقاء والأقارب وربما الجيران، في حوزتها اليوم عشرون طنجرة، تكاد أن تكون مقاساتها كلها متقاربة، تستعمل منها واحدة وفي أحسن الأحوال تستخدم اثنتين لا أكثر. لكنها تبقى خائفة من فقدانها، يضيق المكان بها، لا مكان لها على رفوف المطبخ ولا في الخزائن الصغيرة في مطبخ عتيق ومهمل.

شبح الفقدان يسيطر على حواسنا، لا نستعمل كل ما لدينا، ولا نملك الجرأة على منحها لمن يحتاجها، والأشد قساوة هو لماذا جلبناها ونحن لا نحتاجها؟ ما الفائدة من تخزين عشرين طنجرة لامرأة واحدة سافر أبناؤها بعيداً، فقدت بيتها بكل محتوياته، تفرقت عائلتها، وباتت وحيدة، لقد عجزت كل تلك الطناجر عن منح الطمأنينة والاكتفاء للمياء.

في كل يوم سبت تُخرج أسمى الملاءات القطنية والأغطية الصوفية وأغطية الوسائد وتنشرها على سور الشرفة المعدني، تشعر بالتعب الشديد، بات نشرها وطيها من جديد وإعادة توضيبها في الخزانة مرهقاً، لكنها تتمسك بها بشدة، تخاف فقدانها، وهي تسحبها من على السور المعدني تحكي معها، تتغزل بألوان بعضها ومتانة البعض الآخر وبرائحة مسحوق الغسيل. دوماً على الكنبة الكبيرة في غرفة جلوس أسمى يتربع غطاءان أو أكثر هناك. تقول أسمى في محاولة للتبرير: واحد لنومة الظهر والآخر لغفوة المساء، مع أنها لا تنام أبداً على الأريكة، لكنها تترك الأغطية ملاصقة لها فقط كي تشعر بالأمان!

لقد شكَّل فقدان الأغراض الشخصية أزمة عاطفية كبيرة في وجدان النساء، كما تولَّد خوف لا يفسَّر في مشاعرهن، تعجز الكلمات عن وصفه. تبدو الردود الانفعالية على كل هذا الفقدان هو إعادة الاقتناء والمبالغة بالرغبة بالاحتفاظ.

ما تعيشه النساء ليس مجرد حالة انفعالية، أو تعبيراً ناتجاً عن رضوض نفسية فقط، بل هو حالة من التشتت العاطفي الوجداني، الذهني والعقلي أيضاً، في بلاد استباحت الحرب كل تفاصيلها من البشر والحجر وحتى عبوات البهارات وقطرميزات المونة.

تستعر الحرب على حدود الصمت عن كل هذا الدمار، في كل البيوت المذعورة من زوار الليل، حيث لا يعير أحد أي اهتمام لصرخات الهلع المكتومة

من أين تجيء الحروب بكل تلك الجموع التي تنخرط فيها؟ مقاتلون، جلادون، ومعفشون يستمتعون بسرقة الكحل من رمش العين؟ ثمة سؤال يفرض نفسه وبشدة، أين تدربوا على كل هذا الخراب؟ كيف بنوا عقلياتهم الإجرامية وكبَّروها ومارسوها بأشكال شنيعة وهمجية؟ لكنها تبدو ثابتة/متبادلة، معروفة، وكأنها من بديهيات الحياة! تكمن المشكلة هنا تماماً! كل حرب ممتلئة حكماً بخططها العسكرية والهمجية، بالسرقة، بالسطو، بالنهم العميق للارتزاق، كل من ينتشي بها ويتبعها يكون جاهزاً لتلقي الأوامر بالقتل، ليسلخ جلد قطة وليستبيح جسد امرأة أو طفل! تبدو الحرب تأسيساً مكتمل البنيان، متوفراً بسهولة وتقبُّل، جاهزاً وصارماً في فرض أدواته.

تستعر الحرب هناك، في قاع قدر ضخم تم فيه طهي المعكرونة لتقديمها لجموع النازحين، يجتمع الأطفال ليتقاسموا بملاعقهم المعدنية ما بقي ملتصقاً في أسفلها، كمية لا تملأ كأساً من الكرتون، لكنها توحي بل تؤكد وجود ما يؤكل. نظن واهمين أن الحرب الشاملة هي توصيف عسكري خالص، لكنه توصيف يومي لاستباحتها اليومية حتى خارج أرض المعارك لكافة تفاصيل حياتنا، هناك في البيوت المنهوبة، في القدور والأمعاء الخاوية، عند البيوت المهدمة، عبر الصدى الأخرس للاستغاثات المنكوبة.

تستعر الحرب على حدود الصمت عن كل هذا الدمار، في كل البيوت المذعورة من زوار الليل، حيث لا يعير أحد أي اهتمام لصرخات الهلع المكتومة والأذى الناجم عن تنافر الأمكنة بأغراض لا مبرر لوجودها إلا الخوف من الفقدان.

نحن وبيوتنا ندير كل ساعة حرباً ضروساً كي تبقى شاهدة على الحرب وكي نقاوم النكران.

سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.