"مُتيتمة، مستسلمة... لكلّ أنواع الرجال"

27 نوفمبر 2024
+ الخط -

"متيتمة"،

هي الجثث المنبوذة على الطرقات وشرفات الأبنية، بين الصواريخ والأقلام وكلام الأشعار السخيف والمتجرّد من أيّ معنى، وصور الوطن المدمّرة المنقولة عبر أثيرٍ متصهين، ومرهون لجهة سلب الحقيقة، وحقّ الانتصار.

"مترمّلة"، 

هي آمالنا المعلّقة بين حقّ الحرب وحق الحياة، وحقوق الإنسان المعوجّة بين أبيض وأبيض دون أدنى التفاتةٍ لضجيج الأطفال المجانس لكلّ المنابر حيث لا يُسمع سوى العويل وقيء المتفرّجين على شلالات الدماء المنهمرة فوق رؤوسنا يوميًا؛ في عجزنا الكامل عن التعبير أو البكاء أو المقاومة.

"متسيبة"،

هي وقاحة اللاتصرّف واللاموقف أمام سفك الأرواح الممنهج في عشوائية ظهوره للعلن، والاستمرار بقتل أنفسنا ضمن نزاعاتنا الداخلية، معلنين بلا خجل يُذكر أنّ للحرب وجهين، وأنّ عدو العدو صديقٌ أيًّا كان، متفوّقين بذلك على جميع أنواع الانحدار والنسيان.

"مستسلمة لكلّ أنواع الرجال"،

هي المفاوضات ومبعوثوها المرسلون ممّا تبقّى من جهنّم على الأرض. حيث لا ثقةَ في وعودهم ولا نورَ في كلامهم والطرقات. هي حكوماتنا الجاثية، المختفية، الملتوية، أمام كلّ شيء يعاكس الوطن، ويزيده تدميرًا وخيانةً ويتمًا. حتّى سئمنا الأرض ومن فيها، وكرهنا الانتماء لمخيّلة وطن، ورائحة من ذكرى أو من بلاد.

حكوماتنا جاثية، مختفية، ملتوية، أمام كلّ شيء يعاكس الوطن، ويزيده تدميراً وخيانةً ويتماً

ستعرف القصيدة وحدك بعد أن تقرأ، أو ربّما ستعرفك هي قبلك، وتصحّح ما بَتَرتُهُ منها في لحظة نقمة غير مسبوقة أمام ما تمثّله بلاهة الكتابة في ظلّ الحنين، أيّ حنين، لشيء من وطن. تلك البلاهة التي غرقت عند عرش اللايقين عندما فقدني الشغف آخر مرّة، في الليلة التي رأيت بها كتبهم والماضي يُحرقان من دون عودة. 

لذلك لا تسل مجدّدًا لمَ لم أعد أشاهد الأخبار بالزخم نفسه، أو تسرقني الصحف بعد الآن. فعدّاد الموت والتفاهة المتفاقمين لن يتوقّف أمام حِدادي البعيد، كالذين هربوا بسبب رخص أرض الوطن بنظر شعبها قبل المسؤولين، وبسبب أنّ هذه البلاد مفبركة على مبدأ التكرار غير المجدي، لميراث الحروب الممتدّ على الأجيال كافّةً بلا أدنى استثناء.

ولكن لا تنسى أن تخبرني، إن كان جبران يشاطرني الرأي نفسه عندما نأى بلبنان آخر له وحده، بعيدًا عن لبنان الجميع الذي لا يقدّره أحدٌ في الحقيقة.  

وما الذي حلّ بتذكاره أمام مكتبة بوسطن العامّة؟ أما زالت تحيط بحديقته أسوارٌ خضراء ولافتات منع الدّخول؟ أعلمني عندما تزوره؛ لمَ رفض رؤيتي هكذا، وحصّن نفسه من كلّ جهة بهذا الشكل الغريب. طمئنّي، إن مررت بجانبه قريبًا أنه ما زال في مكانه، ولم يسلبوه هدوء الذكرى. اسأله، لا تنسَ، عمّا إذا خاف الاقتراب منّي خشية أن أسرق لبنانه هو أيضًا، كما يُسرق منّا كلّ يومٍ، وتُجعَل أرضه أمامنا...

متيتمة، 

مترمّلة،

 متسيّبة،

 مستسلمة، لكلّ أنواع الرجال.

طالبة لبنانية في جامعة السوربون في باريس.
سارة الدنف
سارة الدنف طالبة لبنانية في جامعة السوربون بباريس. صدر لها كتابان، واحد بالعربية وأخر بالفرنسية، ونشرت عدداً من المقالات.