ميراث الوحدة

ميراث الوحدة

08 اغسطس 2021
+ الخط -

يوم الجمعة

بائع السجائر عجوز ووحيد بعد أن توفيت زوجته، يبدأ يومه في الخامسة فجرا ويجد مشقة في هبوط السلم، يقف طويلا أمام باب البيت ليتأكد أنه أغلقه بإحكام، يدفع مقعده أمامه ببطء ليصل إلى الكشك القابع أسفل بيته من الجهة الأخرى، يفتحه بحركات متمهلة ليجلس أمامه طوال النهار، يثرثر مع المارة ويدعو لك بالإقلاع عن التدخين وهو يعطيك باقي ثمن علبة السجائر!

يوم السبت

جلست على المقهى المجاور للصيدلية، ملابسي كانت سوداء، وحذائي أزرق، وكنت أرتدي قبعة، شربت الشاي مرتين، وواصلت سماع نفس الأغنية لثلاث ساعات.

يوم الأحد

كان رقم ملفي 4750 معنى هذا أن هناك 4749 إنساناً سبقوني إلى هذا المكان لأسباب مشابهة أو مختلفة، ربما عانوا أكثر.. لا أحد يعلم.

وأنا أغادر في المرة الأولى لمحت بين الجالسين فتاة تغطي عينيها بنظارة سوداء، ورأسها بحجاب، وشاب في الجهة الأخرى يميل برأسه على هاتف قديم يضغط على مفاتيحه بأصابع يده اليمنى وباليسرى يمسك رأسه، لم أجرؤ على النظر إلى وجوه الباقين خوفا من أن تقع عيني على آثار ما على أجسادهم، أو أن تلتقي عيني بأعينهم، ربما أبالغ بعض الشيء في مشاعري، ربما لم يكن هناك آخرون غيرهم، أسرعت بخطوتي، لم ألتفت ورائي، ولم أنتظر المصعد، هبطت درجات السلم مسرعا، وعندما أصبحت في الشارع شعرت ببعض الراحة.

لم أعلم إلى أين يجب علي أن أتوجه، لكني أعلم أني أحب الصباح، ولا أحب قضاءه وحيدا. وقفت وأمسكت بهاتفي ونظرت في الساعة وأعدته إلى جيبي مرة أخرى، ما زال الوقت مبكرا على أن أهاتف أحدهم. تابعت المشي، قادتني قدماي إلى أحد الشوارع المعروفة بزحامها دائما، فتذكرت أن اليوم الأحد عندما رأيت كل المحلات مغلقة.

حين مات أبي حلمت بأنه قد مات ولم أكن أعرف بأنه مات. أخبرت صديقتي عن الحلم، حين مات أبي حلمت بأن صديقتي توقفت عن الكلام معي.. حين مات أبي لم تكلمني صديقتي..

يوم الإثنين

كنت خائفا من النزول إلى الشارع فاليوم مظاهرة كبيرة ترفع شعارات كبيرة لأسباب لا أعلم عنها الكثير، و"العساكر السوداء" في الشارع عددهم أكثر من الناس، لا أتذكر متى كانت آخر مظاهرة شاركت فيها، لكني أتذكر أني لم أكن قد تملكني الخوف بعد..

شارف اليوم على الانتهاء، فكرت كثيرا، اقترعت بالعملة، راهنت نفسي لو استطعت الوصول إلى قلب المظاهرة سأنساها، سأحتمي من خوفي بالمحتشدين، ومنها.
حملت حقيبتي وهبطت الأدوار التسعة، لم أفكر باستخدام المصعد، وعندما صرت في الشارع رفعت صوت الموسيقى في أذني عاليا لأتغلب على توتري..

المخبرون يستوقفون السيارات بحثا عن النوايا، وبشر مظهرهم قد يبدو غير مألوف، اقتربت من الميدان، نبضات قلبي تتسارع، لم ألفت انتباه أحد، فقط ضابط برتبة كبيرة أشار إلي بأن أمشي على الرصيف، مع الجموع، انصعت بدون تفكير أو اعتراض، واصلت سيري بخطوات أوسع، الآن أسمع أصوات هتافات غاضبة تسب الديكتاتور وتطالب برحيله، شعرت ببعض الأمان، وعندما أصبحت في قلب المظاهرة أمسكت بهاتفي رفعت صوت الموسيقى لأقصى درجة.. شعرت ببعض الراحة ولم أعد أسمع أصوات الهتافات ولم أرَ "عساكر سوداء".

يوم الثلاثاء

السابعة إلا عشرة صباحاً، يرتدي العجوز ملابسه الزرقاء ويقطع الشارع مسرعا، يحمل في يده لفافة من ورق الجرائد، ربما بداخلها رغيفان من الخبز، يتوقف متمهلا أمام المقهى كل يوم في نفس التوقيت ليسأل الجالسين عن الساعة، فأجيبه في كل مرة بنفس الإجابة، ليواصل طريقة من دون أن يلتفت أو يتوقف مجددا.

يوم الأربعاء

حين مات أبي توقفت عن لومه.. حين مات أبي شعرت بأثقال على ظهري.. حين مات أبي استمعت لسورة الكهف، كان يقرأها كل يوم جمعة.. حين مات أبي استمعت لموسيقى صاخبة..

حين مات أبي حلمت بأنه قد مات ولم أكن أعرف بأنه مات. أخبرت صديقتي عن الحلم، حين مات أبي حلمت بأن صديقتي توقفت عن الكلام معي.. حين مات أبي لم تكلمني صديقتي..

حين مات أبي كان بعيدا جدا.. ولم أعرف إلا بعد حلمي بيومين من الإنترنت.. حين مات أبي كان وحيدا جدا.. حين مات أبي لم تكن هناك صور تجمعنا.. حين مات أبي لم أشرب الخمر..

حين مات أبي لم أودعه.. حين مات أبي سامحته.. حين مات أبي بكيت..

يوم الخميس

أستيقظ من النوم في الفجر
أعد القهوة
وأدخن السجائر في المطبخ
كسيدة وحيدة.

دلالات