من كناشة النوادر (2 من 2)

من كناشة النوادر (2 من 2)

18 ديسمبر 2021
+ الخط -

في حديثه عن تفسير قدماء العرب للمد والجزر يروي المحقق الدكتور عبد السلام هارون أنهم ربطوا الأمر بالملائكة فقال ابن فارس "قالوا في ذكر المد والجزر إن مَلَكاً قد وُكِّل بقاموس البحر، كلما وضع رجله فاض، فإذا رفعها غاض"، كان هذا التفسير قد ظهر فيما يقارب عام 395، لكن عندما جاء بعدها بأقل من ثلاثمائة عام المؤرخ والجغرافي زكريا القزويني صاحب كتاب (عجائب المخلوقات)، قدّم تفسيراً علمياً اعتبر فيه أن المد والجزر سببه تسخين القمر لصخور البحار، وهو تفسير قاصر علمياً عن حقيقة الظاهرة لكنه يظل أرحم بكثير من موضوع الملاك الذي إذا وضع رجله في البحر فاض.

يمتلئ كتاب (كنّاشة النوادر) بطرائف لغوية كثيرة يستخرجها هارون من بطون التراث، منها ما يشير إلى قدرة الواقع على تغيير مدلول كلمات معينة لكي ينحرف بها إلى عكس معناها السابق، ويضرب هارون مثلاً على ذلك بكلمة الجرثومة التي كانت في فجرها اللغوي تعبيراً جميلاً عن أصل كل شيء ومجتمعه، حيث كانت تطلق على ما يجتمع في التراب من أصول الشجر، يقال في حديث ابن الزبير عندما أراد أن يهدم الكعبة ويبنيها أنه كان حول الكعبة جراثيم، يراد بذلك أنه كان يحيط بها تجمعات طينية وترابية، ولذلك قال شاعر العرب جرير في مدح بني مروان:

"يا آل مروان إن الله فضلكم

فضلاً قديماً وفي المسعاة تقديم

قومٌ أبوهم أبو العاصي وأمهم

جرثومةٌ لا تساويها الجراثيم".

من أجمل ما قرأته من نوادر في الكتاب نادرة يربط فيها عبد السلام هارون بطريقته الرائعة بين الماضي والحاضر، وهي نادرة تحمل عنوان (كنوز مصر) ينقل فيها عن تفسير أبي حيان الأندلسي لقول الله تعالى في أحد فراعنة مصر حين أتبع موسى عليه السلام وقومه بجنوده "فأخرجناهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم" أن المراد بالعيون عيون الماء، وقيل هي عيون الذهب، وأن الكنوز هي كنوز المقطم، التي يقول ابن عطية هي باقية إلى اليوم"، يقصد وقت كتابة أبي حيان للتفسير، ولا ندري هل بقت إلى أيامنا هذه أم قام من قبلنا ومن بعد ابن عطية بتسليكها لتذهب إلى أصحاب النصيب.

يقول أبو حيان المتوفي بالقاهرة سنة 745 "وأهل مصر في زماننا في غاية الطلب لهذه الكنوز التي زعموا أنها مدفونة في المقطم، فينفقون على حفر هذه المواضع في المقطم الأموال الجزيلة ويبلغون في العمق إلى أقصى غاية، ولا يظهر لهم إلا التراب أو حجر الكَذّان الذي المقطم مخلوق منه، وأي مغربي يرد عليهم سألوه عن علم المطالب، فكثير منهم يضع في ذلك أوراقا ليأكلوا أموال المصريين بالباطل، ولا يزال الرجل منهم يذهب ماله في ذلك حتى يفتقر، وهو لا يزداد إلا طلبا لذلك حتى يموت، وقد أقمت بين ظهرانيهم إلى حين كتابة هذه الأسطر، نحوا من خمسة وأربعين عاما، فلم أعلم أن أحدا منهم حصل على شيء غير الفقر، وكذلك رأيهم في تغوير المياه، يزعمون أن ثم آبارا، وأنه يكتب أسماء في شقفة، فتلقى في البئر فيغور الماء، وينزل إلى باب في البئر يدخل منه إلى قاعة مملوءة ذهبا وفضة وجوهرا وياقوتا، فهم دائما يسألون من يرد من المغاربة عمن يحفظ تلك الأسماء التي تكتب في الشقفة، فيأخذ شياطين المغرب منهم مالا جزيلا ويستأكلونهم، ولا يحصلون على شيئ غير ذهاب أموالهم". ثم يقول أبو حيان "ولهم أشياء من نحو هذه الخرافات، يركنون إليها ويقولون بها، وإنما أطلت في هذا على سبيل التحذير لمن يعقل". وبالطبع لو عاش أبو حيان أيامنا ورأى حمى التنقيب عن الكنوز والآثار وهي تجتاح مصر كلها وليس المقطم فقط، لعرف أن ما تغير هو أننا لم نعد بحاجة إلى السحرة القادمين من الخارج لكي ينصبوا علينا، فالنصابون المحليون يقومون بالواجب وزيادة.

في موضع آخر من كتابه يحكي عبد السلام هارون نادرة مهمة ينبه فيها إلى "ضرورة عدم الثقة الكاملة بالتواريخ المعاصرة خصوصا تلك التي يتم كتابتها بإيعاز من ولي الأمر مهما سمت منزلته وعرف بالنزاهة ونقاء الجيب وسلامة النفس، إذ ليس من طبيعة البشر إلا أن يجاملوا معاصريهم ومن هم فوقهم مهما تصنعوا من عدالة وإنصاف"، مستدلاً على ذلك بقصة حدثت عندما أمر عضد الدولة بن بويه الديلمي بصنع كتاب في أخبار الدولة الديلمية وكلّف بذلك أبو إسحاق الصابي الذي كان قبل ذلك التكليف مرهبا ومعتقلا لدرجة أن الأمير عزم يوما على إلقائه تحت أقدام الفيلة، ولذلك قرر مجاملة للأمير واتقاءً لشره أن يقوم بتأليف هذا التاريخ، وذات يوم دخل عليه صديق فرآه في شغل شاغل من التعليق والتسويد والتبييض، فسأله عما يعمل فقال: أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها. وبالطبع لم يعجب الأمير بما سمعه فخرب بيت المؤرخ ليس لأنه كذب، بل لأنه لم يكذب بنفس مفتوحة، وهو صنف من المؤرخين الكذابين نفتقده بشدة هذه الأيام.

بالمناسبة، بعد أن قمت بالكتابة عن كتاب (كُنّاشة النوادر) لأول مرة في صحيفة (التحرير) صيف 2011، سعدت أيما سعادة باتصال كريم تلقيته من الدكتور نبيل هارون نجل شيخ محققي التراث عبد السلام هارون، الذي لمست فيه الابن البار الذي يحمل بحب شديد عبء حفظ تراث أبيه العظيم ونشره وتعريف الأجيال الجديدة به، وقد أثلج صدري عندما أبلغني أن هناك بالفعل جزءا ثانيا من كتاب (كُنّاشة النوادر) كان المرحوم هارون قد فرغ من إعداده قبل وفاته، حيث كان يقدم نخبة من تلك النوادر الرائعة في المؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية بدءا من عام 1979 وحتى عام 1984، وقد قرر الدكتور نبيل أن يقوم بضم الجزء الثاني الذي لم ينشر من النوادر إلى الجزء الأول الذي سبق صدوره في حياة أبيه ليشكلا كتاباً كبيرا صدر بالفعل عن دار الطلائع وعنوانها: 42 شارع علي أمين امتداد مصطفى النحاس بالقاهرة. (أفتح هنا قوساً لأقول إن ذكر عناوين دور النشر لا يعتبر إعلانا تجاريا على الإطلاق لمن يتوهم ذلك، بل هو على العكس جزء من رسالة الصحافة في نشر الثقافة بين الناس، وقد كنت أفعل ذلك بالفم الملآن عند تقديمي لبرنامج عصير الكتب، وأتمنى على زملائي الكتاب والمذيعين كلما كتبوا عن كتاب أو تحدثوا عنه أن يذكروا عناوين دور النشر التي يمكن أن يحصل الناس منها على الكتب، تماما كما تنشر الصحف عناوين وتليفونات دور السينما والمسارح كخدمة منها للقارئ ودعما لصناعة النشر المنكوبة في بلادنا).

الخبر غير السار الذي عرفته من الدكتور نبيل أن ما تم نشره من كناشة النوادر ليس سوى نزر يسير من المادة الخام التي جمعها والده طيلة خمسين عاما من عمله في التراث، حيث تعود منذ البداية أن يقوم بعمل دفاتر مبوبة ومرتبة أبجديا ينقل فيها ملاحظاته التي يجمعها من قراءاته في كتب التراث، وقد جمع في هذه الدفاتر حوالي 1160 موضوعا، لكن ما تم نشره منها ليس سوى220 موضوعا فقط هي التي تم تحقيقها ووضع فهارس لها بنفس الطريقة التي كان يقوم بها الأستاذ هارون مع الكتب التراثية التي يحققها فيضع فيها فهارس للآيات القرآنية والأحاديث والأمثال والأشعار والأرجاز واللغة والأعلام والقبائل والطوائف والبلدان والمواضع والمباحث التي يتضمنها الكتاب والكتب والمراجع، بحيث تستطيع أن تصل إلى أية معلومة بمنتهى السهولة، وقد كان رحمه الله يفعل ذلك في عصر الكتابة اليدوية حيث لا كمبيوتر ولا برامج مساعدة توفر الوقت والجهد.

في مقدمة الكتاب الجديد يشير الدكتور نبيل هارون إلى أنه "ما زال الشطر الأعظم من النوادر رهن عزم علمائنا ومحققينا لإخراجها لأحباب العربية وعشاق التراث"، وما علمته منه أنه تعرض لتجربة محبطة عندما وعده أحد الأساتذة المتخصصين في تحقيق التراث بتوجيه عدد من شباب الباحثين في معهد متخصص لكي يقوموا بإكمال تحقيق هذا الكنز الرائع الذي يمكن أن يصالح الكثير من الذين ينفرون من قراءة التراث عليه، لكن أولئك الشباب استثقلوا المهمة وفضلوا أن يلجؤوا إلى مهام سهلة لكي يحصلوا على درجات علمية بشكل أسرع، ورغم أنني ناشدت في عام 2011 كل الباحثين العاشقين للتراث والذين يعرفون قدر عبد السلام هارون أن يقبلوا على ابنه لكي يتعاونوا معه لإكمال هذا العمل العظيم الذي يستحق كل الدعم والاهتمام، لكي يصل إلى مستحقيه والمتعطشين له وأنا أولهم، لكن دعوتي لم تجد صدى، لأن هذه الأجزاء الموعودة من كنز عبد السلام هارون لم تصدر حتى الآن على حد علمي، وأتمنى أن تتغير الظروف ونراها ونستمتع بهذه النوادر التي تفتح شهية القارئ على الإقبال على التراث والاستزادة منه.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.