من حكايات حارتنا.. حكاية عدو النساء
عبد الحفيظ العمري

حارتنا واحدة من حارات الدنيا الضيقة، التي لا تنتهي حكاياتها ولن تنتهي.
وهنا أدوّن بعضًا من تلكمُ الحكايات.
(1): حكاية (صاحب الذكرى)
هو أحد رجال الحارة الذين تشاهدهم في مقهى الحارة الكبير؛ فالرجل قد أُحيل على المعاش منذ زمن، لذا صار مقهى حارتنا متنفسه الوحيد، يجلس فيه مع أقرانه كبار السن يتذكّرون أيامهم الخوالي، وكيف عركتهم الأيام.
يحلو لكبار السن دومًا سرد ذكرياتهم، فهم يظنون أنهم لم يعودوا يملكون غير الذكريات!
بيد أنّ هذا العجوز يختلف عن كلّ من حوله، إذ لا يزال بصحته متماسكًا فلم تنل منه أمراض الشيخوخة كالمعتاد، والأهم من ذلك تلك الذاكرة الحديدية التي يتمتع بها، لم تعصف بها رياح ألزهايمر بعد.
وسر هذه الحيوية أنّه ظل محافظًا على صحته، مجانبًا التدخين وتناول القات وغيرهما من الملذات، فالرجل كان في السلك العسكري، وقد تدرّج فيه حتى أُحيل على المعاش برتبة لواء، وكانت حياته، كما يقول، تمضي مثل الساعة في الانضباط.
عن نفسي، تعجبني جلسات الرجل في المقهى التي أحضر بعضًا منها، كلما سنحت لي الظروف، وهو يحدّث مَنْ حوله عن معاركه العسكرية التي خاضها في أماكن مختلفة من أرض الوطن!
يحدّثهم عن مشاركته في ثورة 26 أيلول/ سبتمبر الخالدة، وكان حينها ابن عشرين سنة، وعن تلك السنوات السبع التي أعقبت الثورة بين كرٍّ وفر بين الجمهوريين وبقايا الملكيين، وحروب المناطق الوسطى في أواخر سبعينيات القرن المنصرم، وكيف تم استدعاؤه ليشارك في حرب صيف عام 1994م، إذ تم تسريحه من الجيش قبل ذلك لأسباب يطول شرحها، كما يقول!
وفي كلّ سرد تجده يذكر تفاصيل التفاصيل عن تلكمُ الأحداث، متى وقعت، وأين، ومَنْ كان رجالها من الجانب الذي هو منضم معه، وكذا من الجانب الآخَر، وماذا دار، وماذا كان دوره الشخصي فيها، (لا تثريب عليه في وضع نفسه بارزًا في خضم تلك الأحداث، هكذا هي عادة رواة التاريخ!)
المهم، ذكريات لا تنتهي يرويها هذا العجوز، فكأننا نسمع أحداث تاريخنا المعاصر بلسان أحد الشهود.
(2): حكاية (عدو النساء)
قيل إنّ الكاتب المسرحي توفيق الحكيم كان عدوًا للنساء!
وقيل الشيء نفسه عن المفكّر عباس محمود العقّاد، ولعل أشهر فيلسوف عُرف بعداوته للنساء هو الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، صاحب الفلسفة التشاؤمية، ويذكر التاريخ سببَ عداوة هذا الفيلسوف للنساء هو خلافاته مع أمه، التي مقتها مقتًا شنيعًا بسبب حياتها المستهترة بعد وفاة والده، وظل مقاطعًا لها حتى وفاتها.
بيد أنّ صاحب حارتنا الذي أحكي قصته هنا، لم يكن كاتبًا كتوفيق الحكيم، ولا مفكرًا كالعقّاد، ولا فيلسوفًا كشوبنهاور، بل تاجرًا عاديًا ممّن يعيشون في حارتنا العتيقة، إلّا أنّه يشترك معهم في عداوته للنساء، حتى اُشتهر ذلك عنه.
عداوة تظهر في تعاملاته في أثناء ممارسته للبيع والشراء في دكانه العامر بقلب الحارة، فهو يتأفّف عند عبور إحداهن عتبة دكانه، ومن ثم يحدثها من طرف أنفه بغلظة لا تناسب بائعًا محنّكًا قضى عمرًا مديدًا في بيع البهارات بأنواعها، وقد يعهد إلى معاونيه في الدكان أن يتعاملوا هم مع النسوان.
أمّا في جلساته الخاصة مع أصدقائه، فلا يُخفي هذه العداوة في أحاديثه معهم؛ ونظريته أنّ لولا تحريض أمّنا حوّاء أبينا آدم كي يأكل من الشجرة التي حرّمها الله عليهما أكلها، ما خرج أبونا آدم من الجنة، وما اصطلينا نحن من بعده نار عيشة الضنك، بحسب تعبيره، في هذه الحياة الدنيا!
لذا يجب على كلّ آدم منّا ألّا يثق بجنس بنات حوّاء أبدًا.
حاول كثيرون من محبيه تصحيح هذه الأفكار له، وتوضيح أنّ سبب خروج أبينا آدم من الجنة ليس أمّنا حوّاء، بل وسوسة الشيطان لهما معًا.. إلى آخر القصة المعروفة في كتب التفسير، وأنّ أمّنا حوّاء نفسها وقعت ضحية تلك الوسوسة، لكن هيهات، ظلَّ صاحبنا على موقفه المتصلّب، وعندما تنفد منه الحُجّة في الجدال يقول لمحدّثه: يا راجل غيّر الموضوع، أنظل طوال النهار نتحدّث عن حوّاء وبناتها؟!
فهل تكون نظريته تلك هي السبب فعلًا في هذا الكره؟
لم يفلح أحدٌ من المقربين إليه في سبر غوره لمعرفة السر؛ فالرجل يعيش في حلقة مقفلة من البيت، الذي يعيش فيه وحده، إلى دكانه، وفي آخر الأسبوع إلى مجالس اللهو مع أصدقائه، ثم تدور الدائرة!
فهو ليس كائنًا اجتماعيًا بالمعنى الواسع؛ إذ لا يحبُّ أن يُزار، ولا هو يزور أحدًا، إذا استثنينا مجالس لهوه مع أصدقائه.
وهكذا سارت حياته، فقد ظلَّ أسيرَ نظريته تلك حول جنس الحريم، حتى توفاه الله.
(3): حكاية (صاحب المظلَّة)
مناخ حارتنا موسمي، لذا يزداد هطول الأمطار في أشهر الصيف، التي فيها أجد صديقي فؤاد تكاد مظلّته لا تفارق يده إلّا ما ندر، لكن الغريب أنّ اليوم الذي أراه حاملًا مظلّته تنقشع الغيوم من السماء وتشرق الشمس ساطعةً، وقد لاحظتُ تكرار ذلك مرات عديدة، فأقول له ممازحًا: يا صديقي، دع الناس تتمطّر (لفظة عامية يمنية بمعنى ينزل عليها المطر)!
يردّ: وهل أنا الذي منعت المطر عنهم؟ الأمر بيد الله.
أقول: أعرف أنّه بيد الله، لكنك ما دمتَ حاملًا هذه المظلّة فلن يهطل المطر!
يردّ: يا راجل، بلاش تخاريف.
أقول: حسنًا، اخرج غدًا من دون مظلّتك وسترى.
في اليوم التالي نلتقي في الشارع وقد اشتدّ هطول المطر، وأنا أقول: هل رأيت؟ خرجتَ من دون مظلّة النحس، فجاء الغيث من السماء.
يرد حانقًا: مجرّد مصادفة، وها نحن مبلولان يا فصيح!
طبعًا كانت مصادفةً، لكنّها كانت تحدث في أغلب الأحيان.
مرّت السنوات سراعًا، كما هو عهدنا بها، وغابت أخبار صديقي فؤاد عني، وفي يوم غزير المطر ذهبتُ إلى مسجد الحارة الكبير، وما كدتُ أستقر داخله، حتى أُدخل نعش للصلاة عليه ومن حوله أناس عرفتهم مباشرةً، إنّهم أخوة صديقي فؤاد، ألجمت المفاجأة لساني عن السؤال، فاقتربتُ من النعش الذي لم يكن فيه إلّا صديقي فؤاد مسجّىً، فلا حول ولا قوة إلّا بالله.
لقد رحل صاحب المظلّة في يوم مطير، فهل هطل المطر بغزارة لأنّه لم يكن يحمل مظلّته؟
وتستمر الحكايات..

