من حكايات حارتنا... حكاية الشَّاقي

24 يناير 2025
+ الخط -

حارتنا واحدة من حارات الدنيا الضيّقة، التي لا تنتهي حكاياتها ولن تنتهي. وهنا أدوّن بعضاً من تلكمُ الحكايات.

(1): حكاية المعتوه

حارتنا مثلُ أيّ حارة تحترم نفسها، توجد فيها مجموعة من المعاتيه! هل عددهم كثير؟ أظنّ أنه متوازنٌ مع عدد سكان الحارة.

مِنْ هؤلاء المعاتيه لدينا شخصٌ يحبّ أن يصبح مادةً رائجة في وسائل التواصل الاجتماعي، لذا  يفجّر كلَّ فترة قضية تافهة من أجل جلب اللايكات لا غير.

المشكلة ليست فيه، بل في محبيه الذين يتعصّبون له في كلِّ قضية يثيرها، وهكذا تشهد وسائل التواصل الاجتماعي عراكاً حامي الوطيس بين منتقدي هذا الشخص وبين أنصاره المتشيّعين له، في حين يحتجب هو تاركاً المسرح مشتعلاً، لتقوم "سيكولوجيا الجماهير"، كما سمّاها غوستاف لوبون، بعملها على أكمل وجه. إذ تعمل عواطف الجماهير على تصديق أيّ شيءٍ من دون تمحيص ولا رويّة، فتجد حارتنا وقد أضحت مرتعاً للشائعات من كلِّ لون. وللأسف، تصبح شائعات لها مصداقيتها بين جمهور عريض متعصّب، حيث تُروّج بينهم بالعدوى المنطلقة من التكرار، ومن ثم يقومون بتضخيمهما لتصبح مهولة، في ظلّ لاعقلانية الجمهور.

هذا نموذج لمعتوه واحد في حارتنا، وهو واحد من معاتيه كثر يصدّقون كلَّ دجّال.  

(2): حكاية المُخالِف 

 لي صديق عزيز في حارتنا المتواضعة، لكنه من طرازٍ فريد؛ فهو رجل يحبّ أن يسبح ضدّ التيار، أيّاً كان هذا التيار، إذ لا يهم نوع هذا التيار، لأنه المخالِف لكلّ مألوف؛ إذا ذهبت الناس جهة اليمين، يختار جهة الشمال كي يذهب إليها مباشرةً. لماذا؟ لا ندري؛ هل هي مخالفة للمخالفة أم ماذا؟ هو هكذا طبعه غريب.

سألته ذات يوم عن هذه الطباع، فأجابني: لا أحبّ أن أكون مع القطيع!

قلتُ: ليس شرطاً أن يكون اتجاه الكلّ هو اتجاه القطيع.

نظر نحوي بطرف عينه، وقال: ليكن!

أنا بصراحة أعبّر عن رأيي الشخصي، ولا أطلب من أحدٍ أن يتّبعني، ولا يهمني هل وافق رأيي القطيع أم خالفه.

تعمل عواطف الجماهير على تصديق أيّ شيءٍ بدون تمحيص ولا رويّة

قلتُ: لكن أغلب طرحك يخالف ما تسميه القطيع. نادراً ما سمعتُ لك طرحاً وافق الناس، وليس مصادفةً أن يكون رأيك دوماً في خانة المخالفة. قل لي يا صديقي، هل تتعمّد مخالفة ما تسميه القطيع، حتى لا تُحسب منهم؟

ضحك وقال: أتعمّد؟ ولِمَ أفعل ذلك؟ وماذا سأجني لو لم أُحسب في القطيع؟ فأنا في نهاية المطاف ضمن هذا القطيع، سواء شئتُ ذلك أم أبيت.

قلتُ: أظنّك تعمل بقاعدة: خالفْ تُعرفْ.

قال: وإذا عُرفتْ ماذا يعني؟ هل تراني باحثاً عن شهرة؟ وهذا أيضاً ليس مطلبي، أنا كما أخبرتك بدايةً: أعبّر عن رأيي الشخصي فقط، ولتعتبره أنت أو سواك مخالِفاً أو موافقاً، لا يهم.

لم أجد فائدة من جدال صديقي هذا المخالِف، لذا سلّمتُ عليه ومضيت.

(3): حكاية "الشَّاقي"

الشَّاقي في عاميتنا اليمنية هو العامل بيده، ولعلّ اللفظ مأخوذ من الشقاء أي التعب، ولا علاقة للفظة بمفردة الشّقِي عكس السعيد، إذ لفظة الشّاقي تُطلق على كلّ عامل بيده، من مكسّر الحجارة إلى البنّاء، مروراً بالسبّاك والمبلّط وحتى المزارع الذي يعمل في الأرض، بل صار كلّ عامل يُطلق عليه اسم الشّاقي من باب المشابهة.

عند ذهابي إلى مكان عملي في الصباح الباكر، أجد الشُّقاة، جمع شاقٍ، يومياً متجمّعين في ساحة المركزي، كلَّ واحد منهم قد ارتدى ما توفّر له من ملابس ثقيلة، تقيه البرد القارس في صباح الحارة العتيقة، حاملاً على ظهره عُدّته للشغل، إذ منهم السبّاك والمبلّط والمرّنج... إلخ، وكلهم بانتظار أيّ مقاول أو صاحب عمل يأتي لينتقي منهم ثلّة يأخذها معه لإتمام عمله. 

لفظة الشّاقي تُطلق في اليمن على كلّ عامل بيده، من مكسّر الحجارة إلى البنّاء، مروراً بالسبّاك والمبلّط، وحتى المزارع الذي يعمل في الأرض

وتمرّ ساعات الصباح وهم في انتظارهم، وإذا جاء ذلك المقاول أو صاحب عمل وكأنه المهدي المنتظر، تجدهم يتكوّمون عليه لعله يأخذهم، وقد يحدث شجار على ذلك.

صاحب العمل، بطبيعة الحال، إذا جاء لن يأخذ الكل، لذا تجد عدداً من هؤلاء الشُّقاة يعودون إلى بيوتهم وهم يجرّون أذيال الخيبة؛ فلا حظّ لهم في عمل هذا الصباح، لعل الغد يأتي لهم بعمل جديد.  

من هؤلاء الشُّقاة أجد في أغلب الأيّام واحداً منهم، يتجوّل في أغلب الأيام في الشوارع التي أمرّ بها وهو يحمل "مَفرسًا" (المعول في عاميتنا اليمنية) على كتفه يسأل الناس صدقة أو عوناً لأنه لم يُوفّق إلى عمل هذا اليوم.

تكرّرت مرات التقائي بهذا الشّاقي الغلبان، حتى ظننتُ أنه ترك عمله شاقياً وتحوّل إلى متسوّلٍ يسألُ الناسَ إلحافاً. فهل نلومه على ذلك؟

قبل الإجابة، يجب أن نتذكّر أنّ عمل هؤلاء الشُّقاة ليس دائماً ولا مضموناً، بل يلعب الحظ دوره في حصولهم على عمل هذا اليوم، وربما لا يجدون عملاً بعد ذلك لعدّة أيّام.

وكذلك الأجر الذي سينالونه ليس مجزياً، حتى لا تقل لي: لِمَ لا يدّخرون من أيّام عملهم لأيام تعطلهم؟

فتلك الأجور لا تكاد تسدّ احتياجات الفرد الأساسية، ولن أحدثك عن الكمالية، إذ لا كماليات في حياة هؤلاء الشُّقاة! وسبحان رازق خلقه!

وتستمر الحكايات..

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري

مدونات أخرى