من جعبة الحكايات

من جعبة الحكايات

24 مايو 2021
+ الخط -

(5)

يسألني صديق عن المقالب التي لا أنساها، فأقول له إن المقالب كثيرة، ما لا يمكن أن أنساه منها حتى لو حاولت هي المقالب التي أخذتها في البشر وخصوصاً في الأصدقاء، وكنت على وشك أن أحكي له بعضها، لكنني افترضت أنه يبحث عن مقلب خفيف الظل لا يقلِّب عليه المواجع، ولذلك حكيت له عن مقلب عمله فيّ العم صلاح السعدني، مع أنه ظل متمسكاً لفترة بأنه لم يكن يقوم بعمل مقلب بل كان ينصحني لوجه الله تعالى.

كنت ذات يوم من أيام البطالة في تسعينات القرن الماضي، أزور عم صلاح في ستوديوهات صوت القاهرة بالعباسية التي كان يصور فيها مسلسلاً مع نيللي من إخراج أشرف فهمي، وخلال جلوسنا في فترة استراحة من التصوير، دخل رجل أشيب مهيب الجناب متجهم الملامح وألقى السلام على الجميع، وبدا لي من طريقة سلامه وكلامه أنه يعرف الجميع جيداً، وحين استأذن عم صلاح وترك القعدة، فوجئت أنه يشير لي لكي ألحق به إلى خارج الاستديو، وحين فعلت انتحى بي جانباً وقال لي بصوت خفيض إنه خرج لكي يحذرني من الرجل الذي دخل لأنه للأسف الشديد "نحسوتّي"، ولم أكن قد سمعت ذلك المصطلح من قبل، لكنني فهمت من شرحه أن ذلك الرجل يشاع عنه منذ سنوات أنه يصيب بالنحس المبين كل من يراه، وأن هناك طريقة مضمونة لفك أثر ذلك النحس وهو أن تقوم بلمس خصيتك الشمال على الفور دون أن يأخذ باله أحد من ذلك، وبشرط أن يحدث ذلك في خلال دقيقة بالكثير من رؤيتك له أو ورود اسمه في الحوار بأي شكل.

كان عم صلاح يتحدث بجدية، لكنني افترضت الهزل في كلامه لأنني أعرفه رجلاً لا يؤمن بالخرافات، فسألته ساخراً: "طيب والستات بيفكّوا النحس إزاي لما بيشوفوه؟"، فاتهمني بالتساهل في موضوع خطير وقال لي إن هذا الرجل مشهور بأنه يصيب الرجال فقط بالنحس، وأن تأثيره لا يمتد إلى النساء، وأنه أخذ هذا الموضوع باستخفاف في السابق مثلما أفعل الآن، ثم دفع ثمن ذلك الاستخفاف، وقبل أن ينصرف عائداً إلى الاستديو، ذكرني بأهمية أن أطبق نصيحته حين أعود لرؤية الرجل، بشرط أن أفعل ذلك سريعاً وبشكل غير ملحوظ لكيلا يفهمني الحاضرون خطئاً، خصوصاً من السيدات، وحين لاحظ عم صلاح أنني لا زلت آخذ الموضوع بهزار، طلب مني أن أسأل الأستاذ عادل إمام الذي كنت سألتقي به ليلاً، لأنه يعرف جيداً قصة هذا الرجل الذي لا ذنب له في تلك اللعنة التي اختصته بها الأقدار.

ظننته يسخر مني خصوصاً حين أخذ يقول لي بعتاب لطيف إنه كان يتوقع مني ككاتب مثقف أن أفهم إمكانياته الفنية بشكل حقيقي، ولا أقوم بتسكينه في أدوار صغيرة أقل من موهبته

بالطبع، حين حكيت القصة لعادل إمام من باب التريقة والتأليس، فوجئت به يمد يده تحت الترابيزة وقد ظهرت على وجهه أمارات التوتر، قبل أن يقول لي بجدية إنني لا يجب أن آخذ هذا الموضوع باستخفاف، لأن الإيمان بالعلم لا يتناقض مع الاعتقاد في بعض خوارق الطبيعة التي سيقوم العلم يوماً ما بتفسيرها، وربما يحدث ذلك بعد أن نموت، والمشكلة أن استخفافنا بالنصائح التي جربها السابقون لنا في هذا المجال يمكن أن ندفع ثمنه غالياً، وبالطبع لم يكن ممكناً بعد كلام عاقل كهذا إلا أن أمد يدي أنا الآخر تحت الترابيزة وأقوم بتنفيذ نصيحة عم صلاح التي استمرت معي لسنوات، قبل أن يعترف لي الأستاذ عادل بعدها بفترة أن تلك النصيحة كانت تشنيعة اتفق عليها مع صلاح السعدني، لأن ذلك الرجل كان شريراً معهما أيام الشباب، أما عم صلاح فقد ينكر ذلك ويؤكد لي أنه كان ينصحني خوفاً علي من ذلك "النحسوتّي" الذي لم أعد أراه منذ زمن بعيد، لكنني لا أملك نفسي كلما جاءت سيرته أو حضرت بعض أعماله على الشاشة من تذكر نصيحة عم صلاح وتطبيقها من باب الاحتياط، وبما أنني لم ـ ولن ـ أذكر اسمه فأنت لحسن الحظ لست مضطراً لتطبيق تلك النصيحة.

...

(6)

حين كنا نحضر لتصوير فيلم (سيد العاطفي) اقترحت على صديقي المخرج علي رجب رحمه الله وفريق العمل أن نعرض دور العم الذي أثرى من أكل حقوق ابن أخيه على الفنان محيي إسماعيل، وأذكر أن بعضهم تحفظ لأن الدور كان يتطلب ممثلاً خفيف الظل لأدائه، لكي يعطي ما فيه من شر لمحة كوميدية، ومحيي إسماعيل في رأيهم "متخصص في الأدوار المركبة والسيكوباتية"، ولم يكونوا مخطئين في ذلك التسكين، لأن محيي إسماعيل نفسه هو الذي ارتضى تسكين نفسه في هذه الخانة الضيقة في جميع الحوارات التلفزيونية والصحفية التي كان يجريها، لكنني قلت لهم إننا نحتاج إلى الروح اللطيفة التي أدى بها شخصية الطالب المتشدد في فيلم (خلي بالك من زوزو) والتي اشتهرت بإفيه "جمعاء" التاريخي، وطلبت أن يرسلوا له السيناريو على سبيل التجربة، وتحمس علي رجب لاقتراحي، وطلب من المنتج محمد السبكي أن يرسل السيناريو لمحيي إسماعيل، وبعدها بأيام فوجئت بعلي رجب يطلب مني أن أتصل بمحيي إسماعيل لأنه زعلان مني جداً، وحين سألته عما إذا كان يعرف سبب الزعل، قال لي ضاحكاً: "هاسيبها لك مفاجأة"، فاتصلت بالأستاذ محيي وأنا أظن أنه سيعاتبني بسبب أن الدور ليس به أبعاد نفسية مركبة، لكنني في مكالمتي معه فوجئت فعلاً بأنه غاضب جداً لأنني عرضت عليه دور العم، ولم أعرض عليه دور سيد العاطفي نفسه، الذي قال إنه لا يجب أن يقوم بتأديته مطرب ليس لديه خبرة في التمثيل مثل تامر حسني، بل يحتاج إلى أدائه ممثل صاحب خبرة مثله.

في بداية المكالمة ظننته يسخر مني خصوصاً حين أخذ يقول لي بعتاب لطيف إنه كان يتوقع مني ككاتب مثقف أن أفهم إمكانياته الفنية بشكل حقيقي، ولا أقوم بتسكينه في أدوار صغيرة أقل من موهبته، وحين اتضح لي أنه يتكلم بجد، قلت له منبهاً: "لكن يا أستاذ محيي سيد ده طالب في الجامعة"، فأجهز محيي إسماعيل عليّ وعلى المكالمة بالضربة القاضية حين قال: "وانت مالك يا سيدي.. انت ليك إني أقنعك بالدور وخلاص"، فقلت له إنني مقتنع طبعاً بقدراته التمثيلية الخارقة العابرة للأعمار، لكن المشكلة في إقناع باقي فريق العمل، لكنني سأحاول فعل ذلك، فقال إنه على استعداد لأن يقوم بإقناعهم بتمثيل بعض المشاهد أمامهم، ثم طلب مني أن أمر عليه في منزله لكي آخذ نسخة من روايته (المخبول) التي وصفها بأنها أول رواية أدبية يكتبها فنان عربي، فقلت له إنني متحمس لقراءتها وأنني سأعرض على محمد السبكي أن يقوم بإنتاجها بعد أن أكتب لها السيناريو، فشكرني على ذلك وقال إن هذا هو ما كان يتوقعه مني، لكن المكالمة انتهت دون أن نتفق سوياً على موعد للقاء، فلم أعد متأكداً هل كان يشتغلني منذ البداية، وهل أدرك أنني كنت أشتغله في النهاية؟ وهو سؤال لم أكترث بإجابته بعد أن قرأت رواية (المخبول)، التي كانت أول وآخر رواية أدبية يكتبها ممثل عربي.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.