من جعبة الحكايات

من جعبة الحكايات

29 مارس 2021
+ الخط -

(3)

يومها، استغرب صديقي النيويوركي حين عرف أني حزين على رحيل المطرب الأمريكي الشهير كيني روجرز، واستغرب أكثر حين قلت إن معرفتي بكيني روجرز بدأت قبل سنوات طويلة من قدومي إلى نيويورك، لكنني لم أقل له إن معرفتي الوثيقة بكيني روجرز لم يكن لها علاقة بأغانيه ولا موسيقاه، لكيلا أفقد بنط العارف بموسيقى "الكانتري" التي أبدع فيها كيني، فيكتشف أنني لم أكن أعرف شيئاً من أغاني كيني روجرز، وأن علاقتي به جاءت من خلال "فراخه"، أو بمعنى أصح من خلال (روسترز) مطعمه المتخصص في الدجاج المشوي.

في بداية هذه الألفية، وحين فتح ذلك المطعم الأمريكي فرعاً قاهرياً له في امتداد شارع نادي الصيد بحي المهندسين، لم يكن الذين لم يسافروا منا إلى بلاد برّه يعرفون أنه مطعم مشهور له فروع في كثير من دول العالم. كنا نعرف فقط أن الفراخ المشوية التي يقدمها تعتبر نقلة حضارية شاسعة، مقارنة بالفراخ المشوية التي تعودنا على رؤيتها في المطاعم الشعبية وهي تلف حول الشواية الصدئة وتنزّ دهناً وهرمونات، وأنها كانت أطعم من فراخ مطعم (تكّا) التي لا يطيب طعمها إلا حين تغرقها بما يباع معها من "صوصات"، وأنها كانت أنظف بكثير من فراخ (كنتاكي) صديق الإسهال الأول، ولم يكن وقتها مطعم (الطازج) قد فتح لنعرف أن فراخه المشوية برقبة باقي الفراخ من كل الأنواع.

أكثر ما لفتني في زياراتي الأولى لمطعم (روسترز) أن جميع حوائط المطعم ذي الدورين يوجد عليها صور مختلفة الأحجام لرجل ملتحٍ أشيب الشعر يبدو من خلال وقوفه أمام الميكروفون وإمساكه بالجيتار أنه مطرب لم أسمع به من قبل، وتخيلت في البدء أنه "الشيفّ الخواجة" الذي يمتلك المحل والذي يهوى الغناء إلى جوار شوي الفراخ، ولأن العارف بالله مولانا (جوجل) لم يكن قد ترسخ حضوره في حياتنا ليغنينا عن سؤال اللئيم، فقد ترددت في سؤال الواقفين على (الكاشير)، لأنهم كانوا يتمتعون بخصلة تصيب أغلب من يعملون في المطاعم المستوردة من الخارج (الفرانشايز)، وهي التناكة الزائدة عن الحد التي تجعلهم يتعاملون مع أنفسهم بوصفهم موظفي سفارات مسئولين عن منح تأشيرات "الشنجن".

حين توسمت اللطف في عامل كنت أسميه (مدير عام السَلَطات) لأنه كان يقف باستمرار على بوفيه السلطات الذي كان حدثاً ثورياً في مطاعم ذلك الزمان، كان عند حسن ظني وقال لي إن الرجل الذي تلتقطه الصور في كافة الأوضاع الغنائية هو بالفعل صاحب المحل، وأنه مطرب ذائع الصيت في أمريكا وبلاد الفرنجة، وأنه حين استلم الشغل ورأى لحيته تذكر على الفور المطرب سمير الإسكندراني، وحين سأل "حضرة الماندجر المهم" عنه قال له إنه مطرب شعبي مهم في أمريكا مثل الأستاذين محمد قنديل ومحمد العزبي، ولأنه شعر أن ما قاله لي من معلومات لم يشبع فضولي، نصحني لكي أشبع أن أجرب اختراعاً لديهم يسمونه (المافن)، قائلاً إنه أحسن حاجة حصلت له من ساعة أن عمل في المطعم، وقد كان محقاً فيما قاله، لأنني بسبب ذلك "المافن" الرهيب المصنوع من الذرة أدمنت التردد على المطعم حتى أغلق أبوابه، وقد أغلقها سريعاً، ربما

لأنه كان يقدم أكلاً صحياً وهو ما لا يستهوي عشاق الوجبات الجاهزة المرتبطة بالرمرمة ووجع البطن، أو لأن المكان الذي فتح فيه لم يكن ينجح فيه بيزنس من أي نوع، وهي النظرية غير العلمية التي أميل إلى تصديقها، بدليل أن المكان نفسه شهد بعد ذلك افتتاح أكثر من مطعم فاشل.

حين بدأت إقامتي في أمريكا منذ خريف عام 2014، زرت مدناً أمريكية كثيرة، فلم أجد في أي منها فرعاً من فروع مطعم (روسترز) الذي كنت أتصور أنني سأجده في كل شارع في أمريكا، وحين لجأت لشفيع الحيارى جوجل، قرأت أن كيني روجرز كان قد أشهر إفلاس سلسلة مطاعمه للفراخ المشوية داخل أمريكا في عام 1998، بعد منافسة شرسة مع سلسلة مطاعم تحمل عنوان (بوسطن ماركت)، كانت تقدم وصفة قريبة من وصفته، وأن موقفه التجاري ساء بعد أن قررت سلسلة مطاعم (كنتاكي فرايد تشيكن) تقديم صنف "فراخ روستد" شبيهة لوصفته، لكنه بعد أن أغلق أبوابه في أمريكا، فتح عدة فروع في إنجلترا التي كان كيني مطرباً محبوباً فيها، وكانت مصر محطة من محطات توسعه العالمي قبل أن يخذله محبو المقليات لدينا، ربما لأن عشقنا للفراخ البانيه ضرب مراكز التذوق لدينا، لكن المفاجأة أنه كسّر الدنيا في ماليزيا وحقق فيها نجاحاً كبيراً لم يكن يتوقعه أحد.

ولأنني لم أجد الخوخ رضيت بشرابه، وقررت أن أجرب فراخ (بوسطن ماركت) التي كانت سبباً في إفلاس كيني روجرز، فوجدت طعمها ماسخاً "وناقصة سِوا"، وذكرتني بالفراخ التي يقدمها مستشفى المواساة في اسكندرية لمرضاه، فلم أعد إليها ثانية، ومع ذلك كلما مررت إلى جوار أحد فروعها الكثيرة أجدها "شغالة زي الفل" ولا تنقطع أرجل الزبائن منها، وهو حظ لم تنله فراخ (روسترز) برغم ما تقدمه من سلطات وفيرة و"مافن" لذيذ، ليموت ذلك الرجل الأشيب المهيب عام 2020، وفي نفسه شيء من فشل فراخه المشوية التي أخذت حقها في "السِوا" على الآخر، ومع ذلك لم يمش سوقها، فسبحان العاطي الوهاب.

....

(4)

كنا سهرانين ليلتها في قهوة الفيشاوي في الحسين مع صحبة جميلة من الكتاب والفنانين المتجمعين على شرف العالم المصري الجليل الدكتور أحمد زويل، والذي كنت أيامها أعمل على مشروع فيلم عن حياته لم يكتمل مع الأسف. بعد أن انتهت سهرتنا، تمشينا قليلاً في خان الخليلي والشوارع المحيطة به، وكان الدكتور زويل يحكي لنا بحماس عن السعادة التي تغمره حين يتمشى في القاهرة القديمة ويتفرج على تفاصيلها المدهشة، وفجأة ونحن في شارع جوهر القائد، وقف الدكتور زويل أمام عمارة، وأشار بدهشة إلى لافتة معلقة خارج شقة في الدور الثاني كتب عليها كلام من نوعية (الدكتور فلان الفلاني، علاج البواسير بدون جراحة ولا منظار ولا أعشاب).

قرأ الدكتور زويل المكتوب على اللافتة بصوت عالٍ ثم سألنا بجدية بالغة: "يعني إيه؟ طيب بيعالجها إزاي"، ولولا أن الساعة كانت قد وصلت واحدة بالليل، لكان قد طلع إلى العيادة ليفهم من الدكتور طريقة علاجه التي يمكن أن يكسب بها جائزة نوبل في الطب ويصير زميلاً للدكتور زويل في نادي نوبل، ومع أننا أخذنا الموضوع بهزار، إلا أن الدكتور زويل أخذ الموضوع بجد وبدأ يسأل عن الأسباب التي تسمح لشخص أن يكتب إعلاناً كهذا وعن الجهة التي تمنحه الحق أن يكتب ما يخدع به الناس، وحين بدأ يسأل عن دور نقابة الأطباء ويقول كلاماً يليق بشخص طالت غربته عن بلاده، قررت تخفيف الموضوع بأن اشرح له بشكل منضبط تصوري لطريقة علاج البواسير بالأصابع المجردة، والتي تنتمي إلى التراث الشعبي بشكل خاص وتراث الإنسانية بشكل عام، فنظر لي الدكتور زويل مستغرباً وبدا أن الموضوع لا يقبل الهزار لديه.

بعد قليل دخل في الكادر رجل بشوش بهيّ الطلعة عريض المنكبين يحمل سبع أو ثماني لفّات ورقية، وقام بمد يديه بها للدكتور زويل، واتضح أنه فطاطري يقع محله بجوار العيادة التي كنا نقف أمامها، وأنه أراد أن يعبر عن محبته لابن مصر النابغة، فقام بعمل لفّة فطير كان قد طلع من الفرن لتوه ويفترض أن يذهب به لزبائنه، فقرر تأجيل طلبياتهم وإهداء الفطير الجاهز للدكتور زويل الذي اعتذر له، لكن الرجل رفض اعتذاره ورأسه وألف سيف أن يأخذ الدكتور زويل الفطير معه أو يجلس ليأكله في المحل، ليتفاوض الدكتور زويل معه على عدد الفطير الذي سيأخذه كهدية، قبل أن يستغل فرصة لطف الرجل ويقرر سؤاله عن دكتور البواسير ولافتته العجيبة، ليقول له الفطاطري بكل حماس وود: "ده راجل سُكّرة ومجدع وكل الناس بتحبه بس ربنا ما يحوجك وتروح له يا دكتور"، ولم يكن ينفع بعد كريزة الضحك التي انتابتنا جميعاً أن يأخذ الدكتور زويل الموضوع بجد، فمشينا حاملين ما تم الاتفاق عليه من الفطير.

وحتى الآن أتحسر على ضياع فرصة اللقاء التاريخي الذي كان يمكن أن يحدث بين الدكتور أحمد زويل عليه ألف رحمة ونور، وذلك الدكتور الذي يعالج البواسير دون جراحة ولا ليزر ولا أعشاب "ربنا ما يحوجكوا وتروحوا له".

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.