من الجولان إلى السويداء

17 يوليو 2025   |  آخر تحديث: 12:48 (توقيت القدس)
+ الخط -

ثمّة قاعدة سياسية شبه ثابتة في سلوك الأنظمة الديكتاتورية: حين تواجه الخارج، فإنها تُهادن وتُساوم، وحين تواجه الداخل، فإنها تقمع وتصمّ الآذان. هذه ليست مفارقة أخلاقية فحسب، بل منطق بنيوي في بنية الاستبداد نفسه، حيث يصبح الخارج شريكاً في البقاء، والداخل عدوّاً يجب إخضاعه.

ما يجري اليوم في سورية يكشف عن هذه القاعدة بوضوح ساطع. فمع تصاعد التسريبات الكثيفة من مصادر إسرائيلية وغربية عن مفاوضات سرّية ومتقدّمة بين القيادة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع وإسرائيل، يتكشّف مشهد سياسي بالغ الحساسية؛ تنازلات مُحتملة في ملف الجولان، وربما اعترافات أمنية متبادلة، في مقابل ضمان "حرية يد" للشرع في الداخل السوري. ورغم أنّ هذه المفاوضات لم يُعلَن عنها رسمياً، فإنّ وتيرة التسريبات، وتطابقها، والمناخ الدولي المُهيّأ لتسويات سريعة، كلّها تدفع للاعتقاد بأننا أمام تحوّل جذري في بنية "سورية ما بعد الأسد".

المفارقة أنّ الشرع، الذي جاء من خلفية إسلامية جهادية، ويقدّم نفسه محرّراً من النظام البعثي الطائفي، قد يجد في إسرائيل الحليف الضمني الأكثر استعداداً لتسهيل صعوده، ما دام يُقدّم لها ما يريده الأمن الإسرائيلي؛ حدود آمنة، تحجيم للنفوذ الإيراني، وتعهد ضمني ربما بالتخلّي عن الجولان المحتل. في هذا السياق، تبدو الصفقة الكبرى واضحة: صمت إسرائيل، وتغاضي واشنطن، في مقابل إطلاق يد الشرع في تفكيك قسد، وتطويع الدروز، وضبط الداخل السوري بقبضة مُحكمة.

لكن هذا السلوك ليس جديداً في تاريخ الأنظمة الديكتاتورية. غالباً ما تلجأ هذه الأنظمة إلى التنازل أمام القوى الخارجية مقابل الحفاظ على السيطرة المطلقة في الداخل. حافظ الأسد، مثلاً، كرّس "السلام البارد" في الجولان مقابل استمرار حكمه بلا معارضة. السادات وقّع اتفاق كامب ديفيد، لكنه لم يفتح المجال لتعدّدية سياسية حقيقية. بشار الأسد حافظ على "الهدوء الاستراتيجي" مع إسرائيل طيلة فترة حكمه، وقابل أيّ حراك شعبي بالقصف والاعتقال. واليوم، يبدو أنّ أحمد الشرع يسير في الخطّ ذاته، لكن بخطاب جديد، وتحالفات جديدة، وشرعية تُبنى على "التنازل السيادي مقابل الهيمنة الوطنية".

الأنظمة المستبدة مهما بلغت قوّتها الظاهرة، تبقى هشّة في جوهرها

في منطق هذه الأنظمة، الداخل هو الخطر الحقيقي: أصوات تُطالب بالمحاسبة، بحكم القانون، بحقوق الإنسان، بتوزيع عادل للثروة. أما الخارج، فهو قابل للتفاوض. يمكن مقايضته بالأمن، أو الاستثمارات، أو حتى الاعتراف الدبلوماسي. لهذا السبب، لا تتردّد الديكتاتوريات في التنازل عن السيادة الوطنية أمام الخارج، بينما تسحق أيّ صوت معارض في الداخل باسم السيادة نفسها.

الأخطر في هذا النمط أنّ التنازلات الخارجية تُسوَّق في الداخل على أنها إنجازات تاريخية: يُقدَّم اتفاق أمني مع إسرائيل على أنه "تحرير صامت"، ويُصوَّر القمع بأنه "حماية للسيادة وبناء للدولة"، وتُمارَس المركزية المطلقة باسم "الوحدة الوطنية". في حين أنّ الواقع هو ببساطة: صفقة بقاء، لا أكثر.

ربما ينجح الشرع في إحكام قبضته، مستنداً إلى قبول دولي متدرّج، وصفقات أمنية تحت الطاولة، وتواطؤ إقليمي. لكن التجربة تُظهر أنّ هذه الأنظمة، مهما بلغت قوّتها الظاهرة، تبقى هشّة في جوهرها. فهي لا تستند إلى عقد اجتماعي، ولا إلى مشاركة سياسية، بل إلى مزيج من الخوف والتفاهمات الخارجية. وعندما ينكسر أحد طرفي المعادلة: الداخل الذي يثور، أو الخارج الذي يغيّر موقفه، تنهار المنظومة كلّها فجأة.

في النهاية، الديكتاتور لا يثق بشعبه، بل يخافه. ولهذا يقمعه. لكنه يثق بالخارج، لأنه يظن أنّه قادر على شرائه أو استرضائه. لكن الخارج لا يمنح أماناً دائماً، ولا يغفر خطيئة كبرى: التنازل عن السيادة من جهة، ووأد إرادة الناس من الجهة الأخرى.

أحمد مولود الطيار
أحمد مولود الطيار
كاتب سوري، كتب في العديد من المواقع والصحف العربية. له كتاب مطبوع بعنوان "يوميات عربي في كندا"، صادر في عام ٢٠١٨ عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.