من التلغراف إلى الهواتف الذكية: القلق المزمن عبر العصور

01 فبراير 2025
+ الخط -

لم تكن دروس علوم النفس المختلفة التي أخذناها في كلية الإعلام الجديد والاتصال في إسطنبول مجرّد مقرّرات جامعية فحسب، فقد كانت رحلة إلى أعماق النفس البشرية، خضنا غمارها بشغف مع أستاذ لم يكن مجرّد محاضر، إنما كان محقّقًا معتمدًا في أحد مخافر الشرطة، يحمل بين ملامحه صرامة القانون وحدس التحليل النفسي، فقد كان حضوره مختلفًا تمامًا عن البقية في الحصص الجامعية الأخرى، حيث لم يكن يلقننا المفاهيم بجمود أكاديمي بل سردها لنا كما لو كانت فصولًا من كتاب تحقيقات حي. فقد كان الأستاذ يمزج ويتنقل بتسلسل بين علم النفس الاجتماعي والجنائي والإدراكي والإيجابي، مرورًا بإدارة الضغوط والصدمات، ليكشف لنا أخيرا كيف تتقاطع السيكولوجيا مع الإعلام، خاصة في دروس التحقيق والصحافة الاستقصائية التي كان يكرهها الجميع وكنت أحبّها بشغف، فقد كانت بالنسبة لي أكثر من مجرّد مادة؛ كانت مختبرًا فكريًا لاختبار حدود الإدراك والتأثير.

ومع مرور الأسابيع والشهور، انتقلنا معه إلى علم النفس الاجتماعي، حيث استكشفنا تأثير الجماعة على السلوك، وصولًا إلى علم النفس التكنولوجي الذي أدهشنا بتفسيراته حول كيف تعيد التكنولوجيا تشكيل وعينا الجمعي وتصوغ أنماط قلقنا المعاصر، فقد كانت تلك التجربة أكثر من مجرّد تعلّم، كانت فرصة لاكتشاف معادلات خفية تحكم النفس والمجتمع في عالم تحكمه التكنولوجيا.

تعيد التكنولوجيا تشكيل وعينا الجمعي وتصوغ أنماط قلقنا المعاصر

فمرة في إحدى الحصص، أخذنا الأستاذ في رحلة فكرية إلى العصر الفيكتوري، ذلك الزمن الذي شهد تحوّلات اجتماعية واقتصادية هائلة بفعل الثورة الصناعية والتوسّع الاستعماري البريطاني، كانت المدن آنذاك، خاصة لندن، تتضخم بسرعة غير مسبوقة، مما أدى إلى تدهور البنية التحتية وظهور أزمات اجتماعية وصحية حادة، خلقت قلقًا جماعيًا وشعورًا بالاغتراب لدى سكان الحواضر المكتظة. وتزامن ذلك مع ثورة في تكنولوجيا الاتصال بين عامي 1850 و1860، حيث أدى ظهور التلغراف إلى إحداث صدمة نفسية جديدة، وأدى التسارع المعلوماتي إلى جعل الأخبار تصل بسرعة تفوق قدرة الأفراد على استيعابها، ليصبح الجميع أمام حالة من الفوضى المعرفية، بعد أن وجد الناس أنفسهم غارقين في سيل مستمر من المستجدات، غير قادرين على فصل المهم عن العابر. وهكذا تفاقم هذا الضغط النفسي إلى حدّ ظهور اضطرابات عصبية مزمنة مثل القلق العصبي والاكتئاب، مما جعل العصر الفيكتوري ليس فقط حقبة تقدّم، ولكنه كان زمنًا من القلق الحديث المبكّر، والذي كان إرهاصًا لما نعيشه اليوم في ظلّ انفجار المعلومات الرقمية!

كان أستاذنا، وهو الخبير في علم النفس التكنولوجي، يحذّرنا مرارًا من أنّ القلق الفيكتوري الذي نجم عن التلغراف يشبه إلى حدٍّ مرعب ما نواجهه اليوم في هذا العصر الرقمي، حيث باتت العقول منهكة بسبب الإفراط المعلوماتي، والانشغال الدائم بالشاشات، وفقدان القدرة على التركيز والتأمل العميق.. كان يرى أنّ العصر الرقمي لم يخلق قلقًا جديدًا فحسب، بل أعاد أيضًا إنتاج القلق الفيكتوري على نطاق أوسع وأكثر تعقيدا، مما يستدعي وعينا وإدراكنا لكيفية إدارة علاقتنا مع التكنولوجيا حتى لا نغرق في دوامة القلق المزمن ذاته.

الصورة
القلق المزمن

الرسم أعلاه هو رسم كاريكاتيري نُشر عام 1907 في مجلة Punch البريطانية، وهو يصوّر رجلاً وامرأة يجلسان معًا دون أيّ تواصل حقيقي؛ المرأة تتلقى رسالة غرامية عبر التلغراف، بينما ينشغل الرجل بقراءة نتائج سباقات الخيل. هذا الرسم كان تعليقًا ساخرًا على تأثير التكنولوجيا على العلاقات الإنسانية، في وقت كانت فيه وسائل الاتصال السريعة مثل التلغراف تُثير قلقًا اجتماعيًا بشأن العزلة والتفاعل السطحي بين البشر. بعد أكثر من قرن، نجد أن المخاوف ذاتها تتكرّر في عصرنا الرقمي مع الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي.

وفي خضم التحولات الكبرى للعصر الفيكتوري لجأ البريطانيون إلى اللُّودانوم، وهو مزيج من الأفيون والكحول كمسكّن للألم والقلق الناتج عن التغيّرات الاجتماعية والصناعية. كان يُباع دون وصفة طبية لعلاج الأرق والاضطرابات العصبية، لكن الاستخدام المفرط له أدى إلى الإدمان، ما دفع السلطات لاحقا إلى فرض قيود على تداوله بعد تفاقم المخاوف الصحية.

الصحة النفسية ليست ترفاً، إنما هي ضرورة للعيش بسلام في هذا العالم المعقّد

في تلك الحقبة، ابتكر الأميركيون طُرقًا علاجية فريدة لمواجهة القلق والوهن العصبي، فقد كانت النساء غالبًا يوصين بالراحة التامة في السرير لثمانية أسابيع، في حين أنّ الرجال، مثل تيدي روزفلت الذي سيصبح رئيسًا مستقبليًا لأميركا لاحقا، كانوا يُرسلون إلى المناطق الغربية ليعيشوا في أكواخ مزارع ويمارسوا الصيد في الغابات الخشنة في محاولة للتخلّص من الضغط النفسي. وقد كان هذا النوع من العلاج يُعتبر بمثابة وسيلة لتحفيز الجسم والعقل على استعادة التوازن بعد التوترات الناجمة عن الحياة الحضرية السريعة.. وبالفعل فقد استعاد روزفلت صحته النفسية وحيويته التي اعتبرت جزءًا من تشكيلة شخصيته القوية التي عرف بها لاحقًا في حياته السياسية. 

وفي الختام، لا يسعني إلا أن أقول؛ بالفعل لقد ورثنا قلق العصر الفيكتوري بلا شك، وها هي التكنولوجيا تعيد صياغة قلقنا في هذا العصر الرقمي بدون أن نشعر، فقد أصبح من الواجب أن نفكّر بجدية في العودة إلى مزرعة روزفلت وأن نستعيد فهمنا لذواتنا ونمنح أنفسنا لحظات هدوء بعيدًا عن هذا التدفق المُتواصل في عصرنا المتسارع، حيث تلاحقنا التقنيات بكلّ سرعة ليصبح العقل البشري في حاجة ملحة للراحة والتوازن، تماما كما كان الحال في العصور الماضية، فالصحة النفسية ليست ترفًا، إنما هي ضرورة للعيش بسلام في هذا العالم المعقّد.

ريهام أزضوض
ريهام أزضوض
كاتبة وباحثة في قضايا النهضة، خريجة من جامعة أسكودار في قسم الاعلام الجديد والاتصال في اسطنبول بتركيا، درَستْ القانون في جامعة محمد الأول في المغرب، تقنية وخبيرة في التجميل الطبي للعناية بالبشرة والشعر. تعرف نفسها، بالقول: "اصبر ثم اصبر حتى يتغنى الصبر بك".