من الأقرب إلى تزييف الحقيقة؟

23 يناير 2025
+ الخط -

في عالمٍ يفيض بالمعلومات المتدفقة والآراء المُتباينة، تصبح الثقة فيما نقرأه ونسمعه حجر الأساس لاتخاذ قراراتنا وتشكيل آرائنا. لكن ماذا لو كانت بعض هذه المعلومات مغلوطة أو مزيّفة؟ وماذا لو كان مصدر هذا التزييف أفراداً يُفترض أنهم في طليعة من يسعون إلى كشف الحقائق؟ 

ثمّة دراسة حديثة أجرتها جامعة آرهوس في الدنمارك، بقيادة الباحث جاسبر شنايدر، تسلّط الضوء على العلاقة بين السماتِ الشخصية والميل إلى تزييف الحقائق أو تجاوز القواعد الأخلاقية، مما يكشف أنّ الضغوط المهنية وحدها لا تكفي لتفسير هذه الظاهرة.

تحديات البيئة التنافسية

يواجه الباحثون في العالم الأكاديمي بيئة تنافسية شديدة، حيث يصبح النشر في المجلات العلمية المرموقة مقياساً رئيسياً للنجاح. في ظلّ هذه الضغوط، قد يلجأ البعض إلى المبالغة في أهمية نتائج أبحاثهم، أو حتى تزييف البيانات لتحقيق مكاسب مهنية.

تعزيز قيم الضمير والتوافق، سواء على المستوى الفردي أو المؤسسي، يمكن أن يساعد في بناء ثقافة تحترم الحقيقة وتدعم النزاهة

تشير الدراسة إلى أنّ هذه الممارسات غير الأخلاقية ليست نادرة، حيث تتراوح نسبة الانخراط فيها بين 10% و64% حسب بعض التقارير. ومع ذلك، فإنّ هذه الضغوط ليست العامل الوحيد المؤثّر. فبينما يخضع الجميع للبيئة التنافسية نفسها، لا ينخرط الجميع في التزييف، مما يثير تساؤلات حول دور العوامل الشخصية في ذلك.

دراسة تكشف الجذور

عمل فريق جامعة آرهوس على استكشاف ما إذا كان تزييف الحقائق مرتبطاً بطبيعة النظام البحثي التنافسي أو بسمات شخصية محدّدة. وركّزوا في دراستهم على "الممارسات البحثية المشكوك فيها"، وهي ممارسات تشمل تقديم نتائج غير ذات دلالة إحصائية على أنها دليل على غياب تأثير، والمبالغة في الاستشهاد الذاتي لتعزيز السمعة الأكاديمية، والإشارة إلى مراجع غير ذات صلة بهدف إرضاء مراجعي المقالات.

دور الشخصية في تشكيل السلوك

بالاعتماد على نموذج العوامل الخمسة الكبرى للشخصية، ركّز الباحثون على سمتي الضمير والتوافق كعناصر رئيسية لتفسير السلوكيات البحثية. أظهرت النتائج أنّ الأفراد ذوي المستويات العالية من الضمير والتوافق كانوا أقلّ عرضة لتبني ممارسات غير أخلاقية، إذ يرتبط الضمير بالالتزام والدقة في العمل، بينما يعكس التوافق قيم التعاون والاحترام.

الحقيقة ليست مجرّد هدف يُسعى إلى اكتشافه، بل هي مسؤولية مشتركة نتحملّها جميعاً

كذلك كشفت الدراسة أنّ الباحثين الذين يمتلكون خبرة مهنية أطول كانوا أقلّ ميلاً لتزييف الحقائق، بينما زادت احتمالية الانخراط في الممارسات المشكوك فيها لدى أولئك الذين يشعرون بضغط بيئي مرتفع أو يعتقدون أن ثقافة البحث في مؤسساتهم أقلّ صرامة.

قيم تؤثّر يومياً

لا يقتصر تأثير النتائج على المجال البحثي فحسب، بل يمتدّ إلى الحياة اليومية. فالسمات الشخصية التي تؤثّر على النزاهة الأكاديمية قد تنعكس أيضاً في العلاقات الشخصية والمهنية. الأشخاص الذين يميلون إلى تجاوز القواعد أو اختصار الطريق لتحقيق مكاسب شخصية يظهرون سمات نقص في الضمير والتوافق.

لحماية أنفسنا من التأثيرات السلبية لهؤلاء الأفراد، يمكننا التركيز على التعامل مع الأشخاص الذين يلتزمون بالقواعد ويظهرون قيم التعاون والنزاهة، والبحث دائماً عن مصادر متعدّدة للتحقّق من صحة المعلومات التي نتلقاها.

النزاهة انعكاس للشخصية

في نهاية المطاف، تكشف الدراسة أنّ النزاهة ليست مجرّد مسألة ظرفية أو ضغط بيئي، بل هي انعكاس عميق لسمات شخصية الأفراد. ومع أنّ العالم البحثي يشهد تحديات متزايدة تهدّد مصداقيته، فإنّ تعزيز قيم الضمير والتوافق، سواء على المستوى الفردي أو المؤسسي، يمكن أن يساعد في بناء ثقافة تحترم الحقيقة وتدعم النزاهة.

من خلال تعزيز الوعي والفهم العميقين، نصبح أكثر قدرة على التمييز بين الأشخاص الذين يلتزمون بالقيم الأخلاقية وأولئك الذين يتجاوزونها، سواء كان ذلك في الأبحاث العلمية أو في مختلف جوانب حياتنا اليومية. فالحقيقة ليست مجرّد هدف يُسعى إلى اكتشافه، بل هي مسؤولية مشتركة نتحملّها جميعاً.

إنّ الالتزام بقيم النزاهة والعمل على غرسها في تعاملاتنا وسلوكياتنا اليومية يمثّل الأساس لبناء عالم قائم على المصداقية والاحترام المتبادل. هذه القيم ليست مجرّد مبادئ مجرّدة، بل أدوات فعالة تسهم في تشكيل مجتمع يسوده التعاون والثقة، حيث يصبح احترام الحقيقة قاعدة أساسية تدفع الجميع نحو التقدّم والازدهار.