مقامة الفخار... بهبة الفلسطينيين الأحرار

مقامة الفخار... بهبة الفلسطينيين الأحرار

29 يونيو 2021
+ الخط -

أبو الفضل بن النهروان

أوردت كتب التاريخ والأدب، التي تركها لنا مؤرخو القرن الثاني والعشرين وأدباؤه، نصوصاً بديعة عن جهاد المقدسيين وصمودهم في وجه الاحتلال، وما جرى في فلسطين من بطولات في مواجهة دولة الاحتلال الصهيوني.

ونركز في هذا النقل القادم بعد مئة عامٍ على الملحمة البطولية التي جرت على إثر محاولات الاحتلال اقتحام الأقصى في 28 رمضان من عام 1442 هجرية، ومما يحسُن تناوله تلك المقامة الفلسطينية التي تناول فيها المؤرخ أبو الفضل ابن النهروان جهاد أهل القدس وغزة خاصة وفلسطين عامة، وصمودهم وتضحياتهم في مواجهة المحتل، وما جرى من أحداث معركة "سيف القدس"، وسماها "مقامة الفخار بهبة الفلسطينيين الأحرار"، وأترك النقل لما كتبه أبو الفضل لنعاين كيف تناول تلك الأحداث مؤرخٌ وأديب من الزمن القادم:

مقامة الفخار

لله في تاريخه صروفٌ وأقدار، وفي عباده قصصٌ وأخبار، وفي أحوال أمته أفياضٌ وأنوار، ففي عام واحدٍ وعشرين بعد الألفين، والعالم لا يصارع وباء واحداً بل وباءين، شخصت إلى فلسطين الأبصار، وتركزت عليها وسائل الإعلام والأنظار، ولم تكن الالتفاتة إلا على أثر التضحيات الكبار، وصمود أهلها الأخيار، فالمدينة كما قال الشاعر، دهرها دهران، دهرٌ عربي مؤمن يبيت على أصوات التكبير، ويصحو بنسائم الأقصى الأثير، ودهرٌ يعربد فيه بني صهيون، ويذيقوا أصحاب البلاد الهون.

يكتب المؤرخ منا أحداث القدس والقلب تعتصره الآلام، فأيام القدس وأزمنتها ليست كغيرها من المدن والأنام، فقد تكاثرت عليها المحن، وبالغ المحتل فيها التهويد والإحن، وسامهم الحصار والتشريد مع تطاول الزمن، وفي عام سيطر فيه الوباء، حلّت على القدس الذكرى الرابعة والخمسين، لاحتلال شطريها من قبل المجرمين، والمقدسيون ينافحون عن مدينتهم وأقصاهم، وسطروا ملاحم من الصمود، ولم يركنوا إلى الذل والقعود، فما امتلكوا من أدوات الحرب والقتال، ولكن إرادتهم أرسى من الجبال، فكانوا كالأسد في الميدان وعند كل نزال، فعرقلوا محاولات السيطرة على الأقصى من قبل الاحتلال، وكأنهم ملائكة يتدفقون مع تلاوة "تبارك"، خاضوا في جنبات المسجد أعتى المعارك، وما تخلف عنهم في جهادهم إلا كل مارق وهالك، وفي شهر رمضان من عام اثنان وأربعين بعد أربعمئة وألف، صعد المحتل من محاولات التهويد، ولم يعد فعله مقتصراً على التهديد، وبدأت أذرعه التحضير لأسطورة "المبعد" بالتهديد والوعيد، فأعلنت تلك العصابات المارقة، عن اقتحامات للأقصى ستكون ماحقة، وجعلوا لها مناسبة "وطنية يهودية"، وهي ذكرى احتلال الشطرين، التي تزامنت مع الثامن والعشرين من رمضان، في محاولة لكسر الحصرية الإسلامية، وإعلان السيطرة الصهيونية.

أجبرت صواريخ المقاومة الاحتلال على التراجع، فلم يقتصر النصر على الصمود ومكابدة العدو الخسائر، بل في إجباره على أخذ خطوة إلى الوراء

وكم يأكل كبد أحدنا من الحسرات، وتعاف نفسه أنواع المسرات، وهو يكتب ما كان يجري مع أهلنا في القدس، فلم يكن الأقصى مدار الاستهداف فقط، بل حاول الاحتلال أسرلة كل شبر فيها، كأنه نار عظيمة وفي أتونها كل ما في المدينة سقط، فمن تسريب عقارات قرب عين سلوان، إلى استهداف القاطنين في حي الشيخ جراح ومن ثم أحياء بطن الهوى والبستان، وكأن المدينة بالاستهداف تمور، وقد ضجت من الجور، وهي قاب قوسين أو أدنى من أن تثور.

ولكن رياح الاحتلال لم تكن له مواتية، وكان للمقاومة بإذن الرحمن الكلمة العالية، فصمد المرابطون في الأقصى، فخابت بنادقه الآلية، ولم تحطم الهمم قنابله الصوتية، ولم يستطع بمئات الجنود المسلحين، الذين أطلقوا الرصاص المطاطي على المصلين والمرابطين، أن يُدخل إلى المسجد المبارك مستوطنًا واحدًا، وأن يكسر إرادة المرابطين مهما كان في ذلك جاهدًا، واستمرت في ساحات الأقصى المناوشات، وثبتوا أمام همجية المحتل ساعات، وفي تلك اللحظات، دخلت على خط الأحداث المقاومة في غزة، وكانوا كالأسد في مراغمة العدو والعزة، وأمطروا المحتل بالحمم والصواريخ، وأطلقوا معركتهم "سيف القدس"، فلا حظ لمنصبٍ ونفس، بل هي للقدس خالصة، وكانت العيون بين القدس وغزة شاخصة، ولن أكثر فيها من الأخبار، ففي سفر التاريخ تفصيل لما أجملت، وبيان للأحداث التي رويت.

وأطلق الفلسطينيون مواجهة شاملة، ولم تبق أي جبهة خاملة، من أزقة القدس إلى اللد، ومن مستوطنات الضفة إلى غلاف غزة، وفيها كانت المعارك الأشد، فكانت فلسطين كأنها فوهة بركان، والالتحام مع العدو يجري في كل لحظة وآن، وكانت الانتفاضة في الأراضي المحتلة عام 48، رعبًا جديدًا للمحتلين، فقد تحررت اللد من محتليها بعض يوم، والتهبت المدن المحتلة بلظى القوم، فكانت رسالة سكانها الأصليين، أن الروح والدم فداء فلسطين، وأننا ما زلنا على العهد مهما تطاولت السنين.

وعلى أثر المعارك المستعرة، وإبداعات المقاومين البررة، أجبرت صواريخ المقاومة الاحتلال على التراجع، فلم يقتصر النصر على الصمود ومكابدة العدو الخسائر، بل في إجباره على أخذ خطوة إلى الوراء، فقد خبر أن استهداف الأقصى هو الداء، وإن إبعاد المستوطنين عنه خير دواء، فخلال المعركة أغلق المحتل باب المغاربة أمام الاقتحامات، ومنعها أيامًا معدودات، وأجل مسيرة الأعلام عددًا من المرات، ولمّا أقامها كانت ضئيلة خجولة لم يشارك فيها إلا الفتيان والفتيات.

وبعد انتهاء الأحداث الجليلة، عاودت أذرع الاحتلال محاولات تهويد المدينة العليلة، من اقتحام واستهداف وهدم، وليس لخور في المقاومين، ولكن لكثرة المتآمرين والمتكالبين، ولكن المعركة أرست قواعد في التعامل مع البغاة الغاصبين، بأنه لا يمكن أن يتعامل معه إلا بلغة القوة وليس باللين، واستخدام ما يمكن من الأدوات في سياق التمكين، من البندقية والكارلو وكل فاتك، وصولًا إلى قاذفات الرشقات الهوالك، وبأن الأيدي التي تضغط على الزناد، هي التي ستحرر البلاد، وتنقذ من نير المحتل العباد.

والأمر مبسوط في كتب التاريخ، فانظروا لأخذ العبرة، ففيه تذكرة لمن أراد وتبصرة..
والسلام.

دلالات

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".