مفرحات الفقر

مفرحات الفقر

14 يوليو 2022
+ الخط -

كثير من الأحداث والمواقف المرعبة لقيت في وجداننا المزيد من الهموم والصور المحزنة، وبالكاد نقوى على قذفها بعيداً عن همومنا ونتناساها، بل نراها مرسومةً بعفويتها في ذاكرتنا وفي قلوبنا التي اكتنفها الغموض، إلى أن تحوّلت إلى مجرد عناوين تزدان بالفقر وصوره المفرحة، نستذكرها بصورة مستمرة بعد أن طواها الزمن ولقيت ما لقيت من جحود في أعرافنا الدارجة.

وهكذا صارت عبارة عن تشكيل فنّي، ولوحات كئيبة من عبق الماضي، وبكل جمالياتها وجاذبيتها وطيبتها من أثر لفظ أنفاسه الأخيرة في حفرة عميقة من غير الممكن النهوض والخروج منها بسهولة إلّا بعد بذل المزيد من الجهد.

فالأصوات المتعدّدة التي كنا نسمعها يوماً أضحت تصرخ في دخيلتنا، وتئن في وجداننا، وتجعل من تلك الأيام صوراً باهتة مثقلة بالجُبن ومطرّزة بالحقد، وهي أقرب إلى صور الموتى منها إلى الصور سبق أن كان لها رتمها الخاص في حياتنا، وفي هذا يعني أنَّ صور الحزن المفجعة ظلّت ترمي بسهامها حيال قلوبنا المعطوبة، وكل ماله بالحياة وطعمها المرّ، بعد أن حوّلت واقعنا إلى جبلّة سوداوية بغيضة لا يمكن لها أن تزول إلّا مع إشراقة شمس الحرية التي صارت عنواناً عريضاً يبحث عنه أهلنا في سورية ليستظلوا تحته، أضف إلى ما كنا نعيشه من سعادة ورضا بالمقسوم، على الرغم من الآلام التي كانت تؤلّب مضاجعنا وشهواتنا المختلفة، التي حولتها مع الأيام إلى جذوة من الرماد، وألوان من الحزن والفقر المدقع، ناهيك عن الهيجان الداخلي الذي لم يسبق أن عرفناه أو سمعنا به، أو قرأنا عنه، وهذا ما صار يُلفتنا ويستدرجنا.

وفي السياق، كنتُ قرأت كلمات معبّرة وصادقة في مضمونها للأخ والصديق المبدع فيصل أبو شادي، في صفحته على "فيسبوك"، لم يترك لنا مجالاً لأن نقول أو نضيف شيئاً. فقد وضع النقاط فوق الحروف بخبرته المعهودة، وتناول ما عجزنا عنه. أبدع في ما نشره من صور غنية.. حيث أعاد لنا ذكريات الماضي مع أيام الزمن الجميل، بأسلوبه مع ما كان ينشره الشاعر الراحل نزار قباني في مجلة المستقبل، التي كانت تصدر في باريس في ذلك الوقت، والتي كان يرأس تحريرها الأديب والصحافي اللبناني الأشهر نبيل خوري.

 وكانت مقالة نزار الأسبوعية تنشر بخط يده الجميل، وتصور ما تصور من أحوال العرب وحكامهم، وتلقي الضوء على أحوالهم، ورؤية شاعرنا المثقف.

وما لفت نظري قول أبو شادي: (في زمن تبييض الثروات يحجم أطفالي عن أكل اللحم.. بل يهربون منه إلى الزيت والزعتر، حتى وإن قدمت لهم مع كل قطعة لحم هدية يحلمون بها، لكن أكل اللحم ظل بعيد المنال.. وهل يعقل أن يكون أطفالي على حق وقد سبقوني بذراع).

نظرة إلى واقع أليم لم يعد يخفى على أحد. فالناس لجأت إلى تناول الزيت والزعتر، مفضلة ذلك لأسباب جوهرية يعرفها معنا أهلنا في سورية بصورة خاصة، نتيجة الوضع الاقتصادي المنهار، وعيش الناس على الفتات! أصبح من الصعب على كثير من الناس تأمين ثمن أوقية من اللحم، أي ما يعادل 200 غرام، وهذا ما هو معروف عنه في التداول في العاصمة دمشق .. في الوقت الذي كنا نعرفه فيه أنّ ابن مدينة الرّقة التي تبعد حوالي 550 كم، وفي حال أراد شراء ما يطيب له من اللحم، لا يتنازل عن شراء أقلها نصف كيلو لجهة تحضير طبخة ما، أما اليوم الحال تغيّر، والإمكانات المادية أيضاً، ولم يعد بإمكان المواطن شراء حاجته وإن كانت بسيطة من هذه المادة الاستهلاكية الرئيسة التي صار من الصعب الحصول عليها إذا لم يكن جيبك مليئاً بالعملة الصعبة!

وبدورنا نناشد الحكومة السورية الرشيدة، الطامحة للتشبث بالكرسي مدى الحياة، الاهتمام بالمواطن الذي أصبح لا حول له ولا قوة.

مع شكري العميق لنبض ذلك الصديق المجتهد المتخفّي، الذي يُتحفنا بين يوم وآخر برؤية مثقف ينشد واقعاً نأمل أن يتحسن يوماً.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.