مصروف الجيب والشهيد زيد غنيم

مصروف الجيب والشهيد زيد غنيم

16 يونيو 2022
+ الخط -

يحصل على مصروف خاص من والده لقناعته أن ذلك سوف يساعده على تعلم مفهوم الملكية والحقوق، لأنه يعلم أن هذا المصروف يستطيع من خلاله التصرف دون قيود، ويفرق من خلاله بين أملاكه وأملاك الآخرين، وكان يتعلم أيضاً التوفير والادخار، ومن أجل ذلك قام بشراء "حصالة"، وبدأ بوضع جزء من مصروفه داخلها ليشتري لمن يحب بعض الهدايا، وقد أدرك أن هذا المصروف سوف يساعده على معرفة حدوده وقدراته، ولم تتوقف حدود المصروف عند هذا الحد، بل كان هذا المصروف يعلمه القناعة والرضا.

كان يشعر كم هو مستقل بشخصيته عن الآخرين، وكيف يتعامل أيضا معهم، ربما كان المبلغ قليلا، ولكنه كان من خلاله يدرك ماذا تعني عزة النفس والاستغناء عن الناس، لأنه لم يكن يعاني "الحرمان"، وهذا ما ساعده على تعزيز ثقته بنفسه، ولذلك لم يكن بخيلاً، أو حتى يتعلم السرقة من أجل المصروف، فمثلاً: عندما كانت والدته تعطيه ليشتري الخبز، كان يعود بما تبقى والخبز معاً.

لم تمهله رصاصات الجندي الصهيوني كثيراً، لقد كانت تسبق الفكرة الأساسية التي ربما يفكر فيها، أن غداً في الصف المدرسي وأثناء الفسحة سيقوم بمقاسمة مصروفه مع زميله الفقير، ولذلك لم يقم بإنفاق المصروف في جيبه، ولكن الفكرة اخترقتها الرصاصة، ورحلت معه إلى الأبد كفكرة أخيرة كان من خلالها يتعلم معنى "التضحية"، وكطفل لا يدرك هذا المفهوم بشكله العميق، بل كان يدرك حجم القيمة والسعادة التي ترتسم على وجه زميله، وهذا ما جعله يفهم ماذا تعني تلك اللحظات التي يشعر بها عندما يجد أن مصروفه يكفيه ويكفي زميله، ومن هنا تعلم أن علينا مساندة من نحب حتى لو وصلت حد تحرير الروح من الجسد.

كانت الدماء تنظر إلى البلاط وترسم حكاية مصروف الجيب "لزيد"، وبجانبه كانت الحجارة

يمتلك "زيد غنيم" في غرفته كراسة صغيرة، وعلى جهة اليمين يقوم بتدوين مصروفه اليومي، وعلى جهة اليسار يقوم بتدوين الأشياء التي ينفق عليها النقود، وكل أسبوع يقرأ الأشياء التي قامها بشرائها، وبعد شهر يعمل ميزانية لمصروفه، ويعرف بالضبط ما يحتاج إليه من نقود، ولذلك كان كل شهر يقوم بادخار مبلغ من هذا المصروف، ويقفز من غرفته إلى الشارع، ويبحث عن الأطفال الذين يقفون أمام المحلات التجارية يشتهون قطعة بسكويت، يمسكهم من أيديهم، ويشتري لهم ما يشتهون، كان يحب هذه الحركة لأنها تعطيه الأمان.

كان قلبه يغرد جنوناً بالابتسامة عندما أعطته أمه مصروفه وهو يرتدي لباس المدرسة للمرة الأولى، حيث قالت له: سوف أمنحك هذا المبلغ كل صباح، ومن الآن سوف يصبح لك مصروف يومي تشتري ما تشتهي في المدرسة، ولكن عليك يا طفلي أن تقوم بتقسيم المبلغ بشكل يناسب يومك، لأن والدك يجتهد كثيراً من أجل هذا المصروف، وكان هذا الدرس الأول الذي تعلمه "زيد" أن عليه أن يحصل على علامات متقدمة جداً من أجل البيت الذي يتعب في سبيل سعادة جيبه وبداخله المصروف اليومي.

بين أزقة بلدة الخضر يمشي والابتسامة لا تفارق وجهه، لأنه يمتلك مصروفه في جيبه الخلفي، يقفز كما العصفور يطير قليلاً ويعود إلى الأرض قليلاً، ينظر إلى أبواب البيوت ويسأل هل الأطفال هنا يحصلون على مصروفهم، ويقول لنفسه سائلاً: من الذي حرمهم من المصروف؟، يتنهد قليلاً ويعود يقول: لو يكفي المبلغ الذي في جيبي لتقاسمته مع جميع الأطفال!، وفي تلك اللحظة، وعند الجملة الأخيرة، وقبل أن يصل بيت جده، أدرك أن هؤلاء الأطفال من يحرمهم مصروفهم هو الاحتلال الذي ينهب مواردنا، وخيراتنا، ووطننا الذي نعيش فيه بدون أمان، وأدرك أيضا أن هذا الاحتلال هو من يسرق قوتنا، ورغيفنا، وأحلامنا كأطفال، وعلينا نحن الأطفال أن نقاوم في سبيل مصروفنا، ولأجل ذلك كانت ثلاث رصاصات في انتظاره، تخترق الرقبة، والظهر، وتخدش الروح، وتكسر قشرة التاريخ، حيث بسببها قد استشهد.

يمتزج لون الدم مع لون البلاط الأبيض، ويحتج الدم، ويبحث عن وجوده كقضية لرحيل طفل لم يشتر بعد قطعة حلوى بمصروفه، ويرفع الدم رايته الحمراء معلناً الثأر من البلاط، يصرخ البلاط، ثأرك مع الرصاص، بل أكثر مع الاحتلال الذي ينهب برتقال يافا، ويقطع شجر الزيتون في بلدة بيتا، ويقتل الأطفال في بيت لحم، لقد كانت الدماء تنظر إلى البلاط وترسم حكاية مصروف الجيب "لزيد"، وبجانبه كانت الحجارة، حجارة أطفال الانتفاضة تلقي قصيدة محمود درويش، وتقول:

وجدوا في صدره قنديل ورد.. وقمر
وهو ملقى، ميتا، فوق حجر
وجدوا في جيبه بعض قروش
وجدوا علبة كبريت، وتصريح سفر..
وعلى ساعده الغض نقوش.
قبلته أمّه..
وبكت عاما عليه
بعد عام، نبت العوسج في عينيه
واشتدّ الظلام
عندما شبّ أخوه
ومضى يبحث عن شغل بأسواق المدينة
حبسوه..
لم يكن تصريح سفر
إنه يحمل في الشارع صندوق عفونه
وصناديق أخر
آه: أطفال بلادي
هكذا مات القمر!

ثائر أبو عياش .. فلسطين
ثائر أبو عياش
كاتب فلسطيني، حاصل على شهادة في علم الاجتماع وأستكمل دراستي العليا في علم الجريمة. ناشط شبابي، أسير سابق لمدة عامين وشقيق الشهيد الطفل مهدي أبوعياش