مزايدات ثورية أم ضبط بوصلة؟

15 مارس 2025
+ الخط -

بعد سقوط النظام البائد وانتصار الثورة السورية، لم يكن السؤال: ماذا بعد الثورة؟ مجرّد رفاهية فكرية، بل تحوّل إلى معضلة حقيقية تهدّد جوهر الثورة نفسها.

هل انتهت الثورة بسقوط الطغيان، أم يجب أن تستمر بوصفها ضامنًا لتحقيق كامل أهداف الثورة، حتى ما بعد المرحلة الانتقالية؟
بين هذه الرؤى المُتباينة، تعالت أصوات متناقضة، بعضها يسعى للحفاظ على المبادئ والمكتسبات، وأخرى تحاول احتكار الثورة، أو تشويه صورتها، بل حتى تصفيتها لمصالح خاصة.
 هناك من ضحى بكلّ ما يملك، وقدّم الغالي والنفيس من أجل الثورة، مؤمنًا بأنها لم تكن مجرّد انتفاضة، بل مشروع تغيير جذري لا يمكن السماح بالتلاعب به أو التراجع عنه. 

ويرى هؤلاء أنّ حماية مكتسبات الثورة تستدعي المزيد من التضحيات، في وجه كلّ من يحاول تحريف المسار أو الالتفاف على الأهداف التي دفع الشعب لأجلها دماءً غالية.

في المقابل، ظهر من يحاول احتكار الثورة، رافعًا شعار (أنا الثورة والثورة أنا)، وكأنّ الثورة إرث شخصي، فيقرّر وحده من يستحق شرف الانتماء إليه ومن لا يستحق.

وبين هؤلاء وأولئك، تسلّل آخرون لم يكن لهم في الثورة إلا الكلمات والتنظير، متأخرين عن ركب التضحية ليصنعوا لأنفسهم أدوارًا بطولية زائفة، يعيدون رسم الماضي بما يناسبهم، غير آبهين بأرواح الشهداء ولا بجراح المكلومين.

الدولة تحتاج إلى عقلية الثورة، والثورة تحتاج إلى عقلية الدولة

الانتصار على النظام البائد كان لحظة مفصلية، لكنه لم يكن نهاية المطاف. وهنا نشأ الخلاف الكبير بين من يرى أنّ الثورة يجب أن تبقى مستمرة، وأنّ سقوط النظام ليس سوى الخطوة الأولى في رحلةٍ طويلة نحو ترسيخ الحرية وضمان العدالة وإعادة بناء المجتمع على أسس جديدة، وبين من يؤمن أنّ الثورة أنجزت مهمتها وحان الوقت للانتقال إلى مرحلة بناء الدولة.

ورغم مشروعية كلا الرأيين، فإنّ بينهما من استغل هذا الجدل لمكاسب شخصية، فهناك من يرفع راية استمرارية الثورة برؤية استغلالية، فقط لاستثمارها سياسيًا أو ماليًا أو مصالح أيديولوجية ضيّقة، وهناك من يسعى إلى إنهائها بسرعة لضمان بقائه في دائرة النفوذ أو حفظ المكاسب الشخصية، وكأنّ مكتسبات الثورة كعكة تُقسّم على من ثار فيها.

وكما هو الحال في كلّ حراك ثوري عبر التاريخ، لم تخلُ الثورة من المزايدين، أولئك الذين يرفعون الشعارات الثورية، لكنهم في الواقع كانوا من أكثر من أضرّ بها. يتعالون على أبناء الثورة باستكبار، وكأنهم وحدهم من يملكون الحق المطلق في تحديد من يستحق صفة (الثائر) ومن لا يستحق، ناسجين حول أنفسهم هالة من القدسية الوهمية.

ومن بين هؤلاء أيضًا، فئة تدّعي "النخبوية الثقافية"، تنظر إلى الثورة وأبنائها بنظرة استعلائية، معتبرة أنّ الحراك الثوري مجرّد انفعال عاطفي يفتقد إلى النضج والرؤية. لا يكتفون بذلك، بل يضيفون إلى خطابهم تعبيرات منفّرة وأحكامًا متعالية، يدّعون بها التحضّر والإنسانية، بينما لا تعدو كونها علمانية متشنّجة أو انتقادات سلبية لا تنتهي، تفتقر إلى أيّ رؤية بناءة.

خطر هؤلاء لا يقل عن خطر المزايدين، إذ إنهم بدل أن يكونوا عونًا للثورة، اختاروا فرض وصايتهم الفكرية عليها، مما عمّق الانقسامات وأسهم في تشويه صورة الثوار الأحرار، الذين حملوا الثورة بصدق وإخلاص، بعيدًا عن ادعاءات التفوق والاستعلاء.

الثورة ليست مجرّد لحظة إسقاط نظام وحسب، بل مسيرة طويلة تتطلب وضوح الرؤية ونكران الذات

لكن وسط هذه الفوضى، هناك ثوار لا يعلم بهم إلا الله. لم يبحثوا عن شهرة أو مناصب، ولم يطلبوا مجدًا شخصيًا. عملوا بصمت، وبذلوا بلا مقابل، وواصلوا الليل بالنهار لحماية حلم الثورة من التشويه والانحراف. هؤلاء هم الأمل الحقيقي، فهم الوقود الذي يحافظ على نقاء الثورة وصون مكتسباتها، بعيدًا عن مزايدات المتسلقين وصراعات المنتفعين.

في الختام، الدولة تحتاج إلى عقلية الثورة، والثورة تحتاج إلى عقلية الدولة، فالثورة ليست مجرّد لحظة إسقاط نظام وحسب، بل مسيرة طويلة تتطلب وضوح الرؤية ونكران الذات. فلا يمكن السماح لأحد باحتكارها، ولا يمكن اختزالها في شعارات من دون مسؤولية تحقيقها. فالمرحلة القادمة تتطلّب توازنًا حقيقيًا بين عقلية الدولة التي تضمن الاستقرار والبناء، وعقلية الثورة التي تبقى حصنًا منيعًا ضدّ أيّ استبداد جديد أو خطر خارجي يهدّد المكتسبات.

النجاح الحقيقي ليس في إعلان نهاية الثورة أو تخليدها، بل في تحقيق أهدافها وبناء وطن حر وعادل، يليق بتضحيات أبنائه الذين صدقوا الوعد، وقدّموا كلّ شيء من أجل مستقبل أفضل.