مدن حقوق الإنسان

مدن حقوق الإنسان

21 يونيو 2022
+ الخط -

تعد عملية التمدين إحدى الظواهر العالمية المنتشرة في القرن الحادي والعشرين، بحيث يعيش اليوم أكثر من نصف سكان العالم في مناطق حضرية، وبحلول عام 2030 من المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 60%. إذ يترافق التوسع الحضري السريع مع ظهور المزيد من الأحياء الفقيرة، وزيادة عدد الأشخاص الذين يعيشون في ظروف محفوفة بالمخاطر، وارتفاع التفاوتات الاجتماعية وعدم المساواة. لكن، من خلال احترام حقوق الإنسان وحمايتها وتعزيزها، يمكن أن يتحول التمدين إلى عامل إيجابي، ما يساهم في تحسين حياة غالبية سكان العالم.

تضع "مدن حقوق الإنسان" الفرد في مركز الصدارة، بحيث يساهم سكانها في المشاركة في صناعة القرارات التي من شأنها أن تؤثر على حياتهم، لا سيما المستضعفين والمهمشين منهم، وذلك وفق مبادئ حقوق الإنسان، لأن المدن ليست بناءات إسمنتية فقط، بل هي فضاءات إنسانية بالدرجة الأساس، تتأثر بالسياسات والقرارات التي تكون موضوعا لها. لذلك، على صناع القرار أن يستحضروا في مختلف مستويات اتخاذ القرار المبادئ الكبرى المحايثة لحقوق الإنسان، من قبيل المساواة وحفظ الكرامة الإنسانية، والاستدامة البيئية.

لقد ظهرت فكرة "مدن حقوق الإنسان" في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، مع الحركة العالمية لحقوق الإنسان، وهي حركة تعكس يقظة وجهود الكثير من الفاعلين والنشطاء لتحسين الشرط الإنساني على المستوى المحلي. إن الهدف من التركيز على السياقات المحلية، يروم بالدرجة الأولى تعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لأنها تؤثر على حياة سكان المدن، وقدرتهم على التمتع بحقوق الإنسان المدنية والسياسية. يصف الفاعلون الحقوقيون والنشطاء "مدن حقوق الإنسان" بأنها تلك الفضاءات الحضرية التي يشارك سكانها ومؤسساتها المنتخبة وسلطاتها المحلية التفكير المشترك في ربط حقوق الإنسان بحياتهم اليومية.

تعد حقوق الإنسان أرضية مهمة للنهوض بالتوسع الحضري المستدام وتطويره، وهذا ما يتطلب عملية شاملة تعزز المساواة وتكافح التمييز

كما تم تعميق مفهوم "مدن حقوق الإنسان" في سنة 2019 بمدينة غوانغجو بكوريا الجنوبية، وذلك ضمن مبادرة "مدن من أجل حقوق الإنسان". إذ وصفت هذه المدن بكونها مجتمعا محليا وعملية اجتماعية وسياسية في سياق محلي تلعب فيه حقوق الإنسان دورا رئيسا باعتبارها قيما ومبادئ توجيهية. تأتي فكرة "مدن حقوق الإنسان" أيضا في سياق جهود طويلة للدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيزها، لا سيما في سياق ارتفاع مستويات اللامركزية والحكم الذاتي في الكثير من بقاع العالم. فضلا عن انتشار الأزمات المالية والاقتصادية والتدهور البيئي المستمر.

وتعتبر مدينة "غوانغجو" الكورية مثالا رائعا لترسيخ مدن حقوق الإنسان، فقد شرعت بتنفيذ مبادئ حقوق الإنسان منذ عدّة سنوات، بما في ذلك تعيين أمين للمظالم يحقّق في مظالم المواطنين ذات الصلة بالعمليات الإداريّة. كما قامت مدينة "فيينا" بإصدار إعلانً لحقوق الإنسان خاص بها، وأنشأت ولايةَ مفوضٍ لحقوق الإنسان، وجعلت من حقوق الإنسان محور أعمالها وقوانينها المحليّة. علاوة على ذلك، اعتمدت مدينة "لوفان لا نوف" البلجيكية ميثاق الأجندة العالمية لحقوق الإنسان في المدينة، وأطلقت اسم "حقوق الإنسان" على بعض شوارع ومعالم المدينة ونظمت مهرجان "أصوات الحرية" من أجل النهوض بحقوق الإنسان وتحسيس الأطفال بقيمها.

إن التفكير في تعزير القرارات والسياسات التي تطاول المدن، بمبادئ حقوق الإنسان، يأتي في سياق ارتفاع ظاهرة التمدين في مختلف دول المعمورة، فوفق صندوق الأمم المتحدة للسكان سيعيش أكثر من نصف سكان العالم في المدن بحلول سنة 2030؛ وهو ما سيطرح تحديات كبيرة على الإنسان، لا سيما في ما يرتبط بالعدالة الاجتماعية والمجالية والفقر؛ لذلك، يبقى ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان مهما لمعالجة مشكلة الفوارق الاجتماعية، وإعادة النظر في المدن باعتبارها فضاءات للمساواة والادماج والتمكين، وليس أمكنة للفقر واللاعدالة والتدهور البيئي.

خلاصة القول، تعد حقوق الإنسان أرضية مهمة للنهوض بالتوسع الحضري المستدام وتطويره، وهذا ما يتطلب عملية شاملة تعزز المساواة وتكافح التمييز بجميع أشكاله وتمكن الأفراد والمجتمعات من مدن تعمل من أجل الإنسان كفضاءات لتكافؤ الفرص أمام الجميع، بحيث يمكن للناس أن يعيشوا في أمن وسلام وكرامة. لذلك، على "مدن حقوق الإنسان" أن تقوم على مبادئ المساواة والمشاركة والشفافية والمساءلة، باعتبارها مبادئ موجهة ومؤطرة لعملية اتخاذ وصنع القرار المحلي، وذلك من أجل اعتماد سياسات قائمة على التعاون لا المنافسة، والعمل معًا من أجل المصلحة العامة لا المصلحة الشخصية، ومعالجة الأسباب الجذريّة للعنف والاضطرابات الاجتماعيّة.

محمد ضريف .. المغرب
محمد ضريف
باحث في القانون العام وفاعل حقوقي من المغرب