مخاض النصر
إنَّ ما يحدثُ اليومَ في منطقةِ الشرقِ الأوسط، أشبهُ بمخاضِ الولادةِ من الخاصرة، تشعرُ وأنتَ تشاهدُ سماءَ بيروتَ وغزةَ والحُدَيْدَةِ أنَّ هناكَ ألمًا بأحشائكَ يمزِّقُكَ من الداخلِ في لحظاتٍ عسيرة، تكادُ تفقدُ فيها أنفاسَكَ من شدَّةِ الوجع، تخطرُ ببالكَ أنَّها لحظاتُ النهاية، ينتابُكَ مزيجٌ من مشاعرِ القلقِ والخوفِ من المجهول، تشكُّ لبرهةٍ في قدرتكَ على إنجاحِ عمليةِ الولادة، ربَّما تصلُ بكَ الدهشةُ إلى رغبتكَ في الانسحابِ من هذا المخاضِ لو استطعتَ...
تفكِّرُ طويلًا ومليًّا وأنتَ تمشي مشوارَكَ بوجعكَ الذي ما زالَ يقسمُ ظهرَكَ كأنَّكَ لن تقوى على المشي ثانيةً، تسترجعُ في ذاكرتكَ مسلسلَ الخيبات، تنالُ منكَ فكرةُ الضعفِ والهوانِ والنهاية، تغدو أسيرَ فكرةِ الإنسانِ الأوَّلِ الذي لا حولَ له ولا قوةَ أمامَ قوةِ الشرِّ الظالمة، وأنَّه مهما علا صوتُ الخيرِ فهو يبقى ضعيفًا بتسلُّلِ الغدرِ والخيانةِ إلى منظومتهِ الهشَّةِ مهما كانتْ نبيلة. وأنَّه لا مكانَ للتوحُّدِ في أمَّةٍ يفرِّقُها الانتماءُ الدينيُّ والمللُ والطوائفُ وتوحِّدُها مساعي السلامِ "الكاذبة" بدلًا من أن تلتفَّ حولَ الحقِّ والخيرِ اللذينِ يطفوانِ فوقَ كلِّ ظلمٍ وشرٍّ.
في هذه اللحظاتِ العصيبةِ في تاريخِ الأمم، لا يمكنُنا أن نأخذَ العِبَرَ إلَّا من التاريخ... تاريخِ الأممِ التي خلتْ من قبلِنا والتي ظنَّ الكثيرونَ حينَها أنَّها ستُضامُ إلى الأبدِ وسيعلو صوتُ الشرِّ فوقَ جثثِ شهدائِها وستُنسى معركتُهم ضدَّ الاستبدادِ والظلمِ وكلِّ أنواعِ القمعِ والتنكيلِ لتسيطرَ القوى الاستعماريةُ وتروِّجَ لحداثتِها المزعومةِ وانتصاراتِها الكاذبةِ لحقوقِ الإنسانِ والحضارةِ الإنسانية.
وهنا أستحضرُ قولةً للمناضلِ الأفريقيِّ الاستثنائيِّ "نيلسون مانديلا" وهو يعيشُ مخاضَهُ العسيرَ والذي استطاعَ بإرادتِهِ وصمودِهِ أن يواجهَ أبشعَ الاعتداءاتِ والجرائمِ وأن يقاومَ سياسةَ الفصلِ العنصريِّ الرهيبِ الذي طاولَ بلادَه، يقولُ مانديلا: "المقاتلُ لأجلِ الحريةِ يتعلَّمُ بطريقةٍ صعبةٍ أنَّ الظالمَ هو الذي يحدِّدُ طبيعةَ الصراع، وغالبًا ما لا يجدُ المستضعفُ بديلًا سوى استخدامِ أساليبِ الظالم". وفي قولةٍ أخرى: "الحريةُ لا تُعطى على جرعات، فالمرءُ إمَّا أن يكونَ حرًّا أو لا يكون حرًّا".
في هذه الحربِ المندلعةِ بينَ غزةَ وبيروت، هناكَ مخاضٌ عسير، ربَّما أغلبُنا يجهلُ مصدرَ القوةِ التي تلزمُنا للتحرُّرِ من غطرسةِ العدوان
وإذا وقفنا للتعمُّقِ في هاتينِ القولتينِ وربطِهما بأحداثِ السابعِ من أكتوبرَ وما تلاها من ردودِ فعلٍ شعبيةٍ ومؤسساتيةٍ على المستوى العربيِّ وحتى العالميِّ وصولًا إلى الحربِ على لبنان، فإنَّنا سنكتشفُ حقيقةَ أنَّنا فعلًا لم نكنْ يومًا أحرارًا بالمعنى المباشرِ والشاملِ لمفهومِ الحريةِ في ظلِّ وجودِ كيانٍ عنصريٍّ يبحثُ في أرضكَ عمَّا يُشبعُ وحشيَّتَهُ وغرورَهُ الذي قد يُفضي بكَ إلى "العدم". في الوقتِ الذي تحاولُ فيهِ أنتَ خوضَ معركتكَ ضدَّ هذه الكياناتِ الوحشيةِ المتطرفةِ بشرفٍ رغمَ كلِّ الخسائرِ وحتى رغمَ كلِّ الضعفِ الظاهرِ على الأقلِّ والذي يرجعُ سببُهُ الأساسُ إلى سيكولوجيةِ الأنانيةِ التي تؤجِّجُ صراعَ المصالحِ بينَ الدولِ وتسعى إلى تقويةِ تحالفاتِها على حسابِ الشعوبِ الأضعف، يبقى هناكَ جانبٌ مشرقٌ من الحرب.
إذ يرى ويليام جيمس، أوَّلُ عالمِ نفسٍ يحقِّقُ في الأسبابِ النفسيةِ وراءَ اندلاعِ الحروبِ في مقالِهِ "المعادلُ الأخلاقيُّ للحرب" في عامِ 1910، أنَّه وسطَ الدمارِ الذي تخلِّفُهُ الحروب، هناكَ آثارٌ إيجابيةٌ للحربِ على المستوى الاجتماعيِّ لا يمكنُ تجاهلُها، تتمثَّلُ في خلقِ شعورٍ بالتكاتفِ والوحدةِ الوطنيةِ في وجهِ التهديدِ الجماعيِّ بتوحيدِها لصفوفِ الناسِ معًا، وهذا ما قد نلاحظُهُ بشأنِ الواقعِ اللبنانيِّ الحالي.
حيثُ نلاحظُ التفافًا قويًّا وموحَّدًا لمختلفِ أطيافِ الشعبِ اللبنانيِّ في ما بينهِ من جهة، واستنكارَهُ الموحَّدَ لموجةِ الاغتيالاتِ التي طاولتْ أعضاءَ حزبِ اللهِ اللبنانيِّ على رأسِهم الأمينُ العامُّ للحزبِ حسن نصر الله، رغمَ كلِّ الاختلافاتِ الأيديولوجيةِ والسياسيةِ التي يحتفظُ بها كلُّ تيارٍ على حِدَة، ممَّا يجعلُنا نرجعُ في لحظاتِ هذا المخاضِ العسيرِ إلى تعزيزِ مفهومِ الوحدةِ الوطنيةِ للوقوفِ ضدَّ العدوانِ بجميعِ أشكالِهِ العسكريةِ والنفسيةِ والإعلامية. من جهتِه، يعرِّفُ غاندي مصدرَ القوةِ بقولِه: "لا تأتي القوةُ من الأشياءِ التي تستطيعُ فعلَها، بل من الأشياءِ التي اعتقدتَ يومًا أنَّكَ لن تستطيعَ التغلُّبَ عليها". وتعيدُنا هذه القولةُ إلى صورةِ المخاض، حيثُ إنَّ الأمَّ عندَ شعورِها بوجعِ الولادةِ تجهلُ تمامًا القوةَ التي تلزمُها لتنجحَ في عمليةِ الولادة، فهي لا تعرفُ من أينَ ستأتيها القوةُ اللازمةُ لتضعَ جنينَها إلَّا حينما تتغلَّبُ على هذا الألمِ في غرفةِ الولادة.
في هذه الحربِ المندلعةِ بينَ غزةَ وبيروت، هناكَ مخاضٌ عسير، ربَّما أغلبُنا يجهلُ مصدرَ القوةِ التي تلزمُنا للتحرُّرِ من غطرسةِ العدوان، لكنَّ الشيءَ الوحيدَ الأكيدَ أنَّه لا مفرَّ من المخاضِ الذي قد يكونُ سبيلَنا للنصرِ رغمَ الجراحِ بدلًا من أن يكونَ سببًا للهزيمةِ رغمَ الكفاح.