ما هي حقيقة هذه الدنيا؟

19 ابريل 2025
+ الخط -

إنّ السؤال المطروح في العنوان يمكن الإجابة عنه من عدّة وجوه؛ وذلك لأنّ كلّ متخصّص سيراها من زاويته الخاصة به. دعونا نبدأ بالفلسفة، بيد أني لن أقوم بعملية جرد لآراء الفلاسفة في كلّ عصورهم المختلفة حول حقيقة الدنيا، بل سأتوقّف عند الفيلسوف والرياضي اليوناني فيثاغورث الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد. لماذا؟ لأنّ رأيه الفلسفي يكاد يطابق ما يقوله العلم الحديث اليوم. فهو يرى أن هذه الدنيا مجرّد عدد. وفي آخر نظريات الفيزياء الحديثة، والمسمّاة "الأوتار الفائقة" نجد أنّ كلّ شيء مجرّد بيانات. كيف ذلك؟

دعونا نمضي ذهاباً في رحلة المعرفة.

إنّ ما نعلمه عن مادة هذا الكون أنّها قابلة للتجزئة، وأنّ كلّ شيء مكوّن من ذرات، لكن هذه الذرات ليست نهاية المطاف في التجزئة، فهي مكوّنة من جسيمات أصغر تُسمّى النواة التي تدور حولها جسيمات أصغر منها تسمّى الإلكترونات، وتلك النواة مكوّنة من جسيمات أصغر هي البروتونات والنيترونات، وهذا ما يعرفه كلّ طالب ثانوية في هذا العصر.

لكن هذه البروتونات والنيترونات، سَبَرَ غورها علماء الفيزياء، بالذات فرع فيزياء الجسيمات، في ستينيات القرن الماضي ووجدوا أنها مكوّنة من جسيمات أصغر دعوها بالكواركات. فهل انتهى المطاف هنا؟

لا، لأنّ العلماء افترضوا أنّ هذه الأجسام وغيرها تنوّعت نتيجة اهتزاز الأوتار!

أيّة أوتار؟

أوتار مليئة بالطاقة، لكننا لا نراها، حتى مع تقنية زويل وما بعد زويل، لكن نستطيع معرفة آثارها التي لن تكون سوى مواضعها على نسيج الزمكان في عدّة أبعاد. وهذا يعيدنا إلى فيثاغورث مرّة أخرى، لأننا لن نعبّر عن هذه البيانات أو المواضع إلّا بالأعداد.

ماذا يقول الشعر عن الدنيا؟

قال الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي:

إن الحياةَ قصيدةٌ: أبياتُها / أعمارنُا والموتُ فيها القافية

وقلتُ أنا ذات زمن:

ما هذي الدنيا؟ جسرُ ترحّلٍ / عنها، إلى الغيبِ المهيبِ النائي

ولو عدنا مرّة أخرى نعود إلى العلوم والفلسفة؛ ففي الفيلم الوثائقي "السر وراء المادة"، يعرض وجهة نظر تقول: إنّنا كبشر لا نحسُّ بالأشياء حولنا حقيقةً، بل ما تعكسه لنا حواسنا عنها. وكأنّنا نتحدّث عن كهف أفلاطون، حيث يرى المحبوسون في ذلك الكهف الافتراضي (الذين هم نحن في هذه الدنيا) ظلال الأشياء خارج الكهف، فنظنّ أنّها حقيقة الأشياء، في حين الأشياء أمر آخر.

نحن كبشر لا نحسُّ بالأشياء حولنا حقيقةً، بل ما تعكسه لنا حواسنا عنها

هذه الفكرة تقولها فلسفة الظواهر أو الفيمنومينولوجيا عند الفيلسوف هوسرل، وقبله كانط، نحن لا نعرف ذات الأشياء على حقيقتها، لكن ظاهرها فقط.

كلّ هذا يقود إلى أنّ هذه الحياة مجرّد ظلال أو هولوغرام، وهي تقنية إعادة تكوين صورة الأجسام بأبعادها الثلاثة في الفضاء باستخدام أشعة الليزر، لكنها ليست تلك الأجسام حقيقةً.

إذن أين نجد الحياة الحقيقية؟

لو تصفحنا آيات القرآن الكريم إذ يقول الحق سبحانه وتعالى: "وَما هذِهِ الحَياةُ الدُّنيا إِلّا لَهوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوانُ لَو كانوا يَعلَمونَ" [العنكبوت: 64].

لهي الحيوان، اللام للتأكيد أي هي الحيوان، الحيوان هنا ليس الكلمة التي نُطلقها على الدواب، بل هي مصدر من مصادر الفعل المضارع (يحيا)، مثله مثل كلمة الحياة.. كما نقول إنّ لفظة القرآن هي مصدر الفعل قرأ، إلى جوار كلمة القراءة. وهنا لفظة (حيوان) هي رديف (حياة).

ونحن نعلم من قواعد العربية أنّ كلّ مصدر ينتهي بألف ونون يدل على الامتلاء؛ فجوعان أكثر امتلاء بالجوع من جائع، وغضبان أكثر امتلاء بالغضب من غضوب أو غاضب، وهكذا.

إذن حيوان أكثر امتلاءً بالحياة من لفظة حياة؛ يقول الإمام الزمخشري في كشافه: "وفي بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة، وهي ما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب، كالنزوان والنغصان واللهبان، وما أشبه ذلك". فكأنّه لفظ معبّر عن الحياة بكلّ تجلياتها، أو لنقل هي الحياة الحقيقية.

والله أعلم.

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري