ما علاقة محافظ إدلب بالشاعر توفيق زَيَّاد؟

ما علاقة محافظ إدلب بالشاعر توفيق زَيَّاد؟

30 ديسمبر 2021
+ الخط -

اقترن اسم محافظ إدلب، زيد حسون، بواحد من فصول كتاب الأدب العربي للصف الثالث الثانوي.. إنه الفصل المعنون "التشبث بالأرض في أدب القضية الفلسطينية".. وأبرز مثال يؤكد هذا التشبث قصيدةُ الشاعر توفيق زَيَّاد التي خاطب فيها المحتلين الصهاينة بقوله:

هنا على صدوركم باقون كالجدار

كنا نتداول هذه الفكرة أنا وصديقي أبو أحمد الذي يتصل بي من إدلب، بين الحين والآخر، ويفتح معي سوالف تدور كلها عن إدلب، وشَعب إدلب، ومسؤولي إدلب. وكنا قد حكينا، في الاتصالين السابقين عن ثلاثة محافظين مروا علينا في أوائل الثمانينيات، هم عبد الله الأحمر، وتوفيق صالحة، وعماش جديع، حتى وصلنا أخيراً إلى زيد حسون الذي بقي (متشبثاً) بكرسي محافظ إدلب، نحو عشرين عاماً، أو لنقل: كان رابضاً على صدورنا كالجدار.

وقلت: للأمانة يا أخي أبو أحمد، لم يكن زيد حسون إنساناً سيئاً بالمعنى الأخلاقي للكلمة، وأكاد أجزم بأن مثالبه كلها تتلخص في مثل شعبي إدلبي هو أن (هذا الزلمة لا يهش ولا يكش ولا يعض ولا يخرمش).. وقد كان لصديقنا المرحوم "أبو مراد" فلسفة خاصة، تتعلق بالمسؤولين البعثيين الذين مُنِيَتْ بهم بلادنا منذ أوائل الستينات، يشرحها لنا في جلساتنا الخاصة، بعدما يحلف بالطلاق كعادته، فيقول:

- علي الطلاق بالثلاثة رئيس بلدية حرامي، أحسن من رئيس بلدية طرطور.

نسأله عن السر الذي أوصله هذا الاكتشاف المرعب، فيقول:

- يا أخي، علي الطلاق بالتلاتة، رئيس البلدية الحرامي، يضطر لأن يعمل، ويفتح مشاريع إنشائية.. يعني من هنا تزفيت شارع، ومن هنا توسيع شبكة الصرف الصحي، ومن هناك تسوية للأرصفة... صحيح أنه يفكر في هذه المشاريع وينفذها لكي يأخذ من كل مشروع (هَبْشة)، ولكن البلدة في المحصلة تستفيد، ويظهر عليها أنها تتحسن، بينما رئيس البلدية الطرطور ماذا يعمل؟ علي الطلاق رئيس البلدية الطرطور يجلس طوال النهار حائراً، لا يدري ماذا يفعل بيديه. أيحك بهما رأسه؟ أم يهرش شعر صدره؟ أم يذهب بهما إلى أماكن غير لائقة؟

قال أبو أحمد: الله يرحم أبو مراد ويحسن إليه. ولكن ألا ترى، يا أبو المراديس، أنه، بهذا الكلام، يبرر السرقة؟

قلت: برأيي أن مناقشة موضوع السرقة في سورية لا يمكن أن تكون بسيطة أو مبسطة على هذا النحو. تخيل نفسك تعيش في دولة رئيسُها وأسرته ومعاونوه كلهم يسرقون خيرات البلاد، ويحولونها إلى دولارات، ويودعونها في بنوك سويسرا، بمليارات الدولارات، ولكي يبقى هذا النظام واقفاً على قدميه فإنه يعطي ضوءاً أخضر لكل مؤيديه وأزلامه، أنْ اسرقوا، وليأخذ كل واحد منكم نصيبه من هذه الدولة الغنيمة الداشرة، ويتصرفْ به تصرفَ المالك بملكه.. وقتها يصبح الحديث عن سرقة عشرين أو ثلاثين ألف ليرة من قبل رئيس بلدية في محافظة نائية قليل الأهمية. وإذا كنت مصراً على إدانته، من منطق أن مَن يسرق بيضة يسرق جَملاً بسنامين، فستدخل، وقتئذ، في باب (المسكوت عنه).

ضحك أبو أحمد وقال لي:

- طول بالك علي، أخي أبو مرداس. أنا لست ضليعاً بالفلسفة. أشو هذا المسكوت عنه؟

قلت: وأنا مثلك، لا دخل لي بالفلسفة، مع أنني أحبها، وأحترمها، وأعتقد أنها المحرك الأساسي لتطور الدول والشعوب. وأما المسكوت عنه فيمكنني أن أعطيك عنه فكرة عملية.

كنا نتداول هذه الفكرة أنا وصديقي أبو أحمد الذي يتصل بي من إدلب، بين الحين والآخر، ويفتح معي سوالف تدور كلها عن إدلب، وشَعب إدلب، ومسؤولي إدلب

قال: يا ليت.

قلت: يا سيدي، عندما كنا نعيش في سورية، كنت أنا، محسوبك، موظفاً في الجهاز المركزي للرقابة المالية، يعني: مفتش مالي. وخلال جولاتي على المؤسسات ذات الطابع الاقتصادي، لأجل تفتيشها، كنت ألاحظ مسألة على قدر كبير من الأهمية. وهي أنا الموظفين الذين يعملون في دوائر المحاسبة في تلك الشركات والمؤسسات يصرفون، خلال السنة المالية، نفقات غير قانونية، بإيعاز من المديرين طبعاً، ولأنه لا يوجد لديهم بند قانوني يصرفون بموجبه هذه النفقات، فقد كانوا يؤجلونها لغاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، ووقتها يكون من واجب هذه الشركة، أو المؤسسة، أن تشارك الشعب السوري أفراحه بالذكرى رقم كذا للحركة التصحيحية المجيدة التي قادها بطل التشرينين حافظ الأسد.. ووقتها، يشتري المحاسب بعض الأعلام، والأقمشة البيضاء المخصصة لكتابة اللافتات، ويدفع أجوراً للطبالين والزمارين وفرق الدبكة.. وضمن هذه المعمعة يسوي أرقام المصروفات، بحيث يغطي المصروفات غير الشرعية السابقة كلها، ويزيد.

قال أبو أحمد: والمفتش ماذا يعمل؟

قلت: لا يوجد مفتش واحد يجرؤ على إثارة هذا الأمر في تقريره، لأنه، لو فعل، لخرج المدير العام ومحاسبُه إلى الملأ، وهم يولولون على طريقة حبيبة قلوبنا الفلاحة المصرية في الأفلام القديمة وهم يقولون: جرى إيه يا دلعاااادي؟ الله الله ع الجد والجد الله الله عليه، تعالوا انظروا إلى هذا المفتش المتخاذل، الحاقد، الذي ضاقت عينُه من بضعة أعلام ولافتات اشتريناها، وبضعة طبول وزمور استأجرناها، لنحتفل بقائدنا الذي يتصدى للاستعمار والصهيونية ويعمل لتحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني، من أجل تحرير الجولان، وفلسطين، واللواء، ووضع سورية في مكانتها اللائقة بين أمم الأرض.. وبعد هذه الولاويل، يا سيدي الكريم، تصبح فروع الأمن مضطرة للوقوف بالطابور حتى يسنح لها أن تأخذ ذلك المفتش، وتسقيه فنجان قهوة سكر وسط، وقد يذهب العناصر الذين يرفعون المعتقلين فلقة، أو علقة، بالكابل الرباعي إلى بيوتهم ووجوههم تنقط سماً، والطعام، يوضع أمامهم، ويُرفع، دون أن يتذوقوه، حتى تأتي زوجة الواحد منهم وتسأله عما صد نفسه، فيقول لها إنه يتمنى أن يعلق تحت يده ذلك المفتش المعادي للسيد الرئيس، ليريه نجوم السماء في فترة القيلولة، ولكنه، مع الأسف، لا يسنح لأحد، فالفروع الأخرى سبقتنا إليه، حتى إنني سمعت، والعهدة على الراوي، أن القيادة طلبته، وسيق إلى الشام.

أبو أحمد الذي كان يسمع هذه السحبة بقي ساكتاً. سألته:

- ما رأيك؟

قال: دوختني. أظن أننا كنا نتكلم عن الشيء الذي تسميه "المسكوت عنه".

قلت: نعم. وبما أن المفتشين في بلادنا أناس عاقلون، وعندهم من الحكمة ما يكفي لتجنب الحديث عن سرقات المحاسبين والمديرين من خلال أوامر الصرف الخاصة باحتفالات جماهيرنا الكادحة بذكرى الحركة التصحيحية المجيدة، فإن تطرق المفتشين إلى حادثة اختلاس خمسمئة ليرة من قبل موظف غلبان، في نفس الشركة، يعني أنهم يحكون عن شيء و(يسكتون عن) شيء آخر، وهذا الشيء الآخر هو (المسكوت عنه). وهو، لعلمك، عمل تافه، جبان.

(للحديث صلة)

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...