ماركس ونقد الرأسمالية وإرثها الفلسفي

17 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 17:56 (توقيت القدس)
+ الخط -

منذ منتصف القرن التاسع عشر، برز اسم كارل ماركس بكونه أحد أبرز المُفكّرين الذين قلبوا الموازين في فهم الاقتصاد والمجتمع. فبينما كان الاقتصاد الكلاسيكي في أوروبا يتغنّى بمكاسب السوق الحرّة وبقدرة الرأسمالية على توليد الثروة، جاء ماركس ليكشف الوجه الآخر للعملية الاقتصادية: الاستغلال، الاغتراب، وهيمنة رأس المال على الإنسان. إنّ فلسفته الاقتصادية لم تكن نظرية محضة، بل قراءة جدلية للتاريخ وللقوى التي تحرّكه، حيث اعتبر أنّ البنية الاقتصادية هي الأساس الذي يشكّل كلّ ما يعلوه من مؤسسات سياسية وفكرية.

استمدّ ماركس الكثير من أدواته الفكرية من الفلسفة الألمانية، خصوصاً من فريدريش هيغل، لكنه قلب جدلية الأخير على رأسها. فإذا كان هيغل يرى أنّ التاريخ تحرّكه الروح المُطلقة، فإنّ ماركس اعتبر أنّ "التاريخ ليس سوى تاريخ صراعات الطبقات". في هذا السياق، لم يعد الوعي هو الذي يحدّد الوجود الاجتماعي، بل على العكس، "الوجود الاجتماعي هو الذي يحدّد الوعي". بهذا الانقلاب النظري، وضع ماركس الاقتصاد في قلب الفلسفة، ورأى أنّ العلاقات الإنتاجية هي المحرّك الحقيقي للمجتمعات.

تأثّر ماركس أيضاً بالاقتصاد السياسي الإنكليزي، ولا سيما آدم سميث وديفيد ريكاردو. فقد أخذ عن سميث تحليله لقيمة العمل بوصفه أساس الثروة، وعن ريكاردو مفاهيم تتعلّق بتوزيع القيمة. غير أنّ ماركس لم يكتفِ بتطوير هذه الأفكار، بل تجاوزها جذرياً، مُعتبراً أنّ الاقتصاد الكلاسيكي لم يرَ إلا سطح الظاهرة. فبينما ركّز سميث على تقسيم العمل، شرطاً للتقدّم، رأى ماركس أنّ هذا التقسيم يُنتج اغتراب العامل عن نتاج عمله، إذ يصبح العمل مجرّد سلعة تُباع وتُشترى في السوق. 

الرأسمالية في نظر ماركس لا تسرق جهد العامل فقط، بل تسلبه إنسانيته أيضا

جوهر النقد الماركسي للرأسمالية يتمثّل بمفهوم "فائض القيمة". فالقيمة في نظره تتحدّد بكمية العمل المبذول، لكن الرأسمالي يدفع للعامل أقلّ ممّا ينتج فعلياً. هذا الفرق بين القيمة التي يخلقها العمل والأجر الذي يتقاضاه العامل هو ما يشكّل فائض القيمة، أي مصدر ربح الرأسمالي. هنا يكمن لبّ الاستغلال، إذ إنّ الرأسمالية تبني تراكمها على عمل الآخرين، فيزداد الأغنياء غنى والفقير فقراً، بحسب رأيه.

لكن نقد ماركس لم يكن اقتصادياً فحسب، بل كان أنثروبولوجياً أيضاً. فالرأسمالية في نظره لا تسرق جهد العامل فقط، بل تسلبه إنسانيته. إنها تفصل العامل عن نتاج عمله، وتحوّله إلى ترس في آلة لا يملك السيطرة عليها. هذا ما سماه "الاغتراب"، وهو حالة يصبح فيها الإنسان غريباً عن ذاته، عن نتاجه، وعن الآخرين. وهنا يتجلّى البعد الفلسفي العميق لنقده، إذ إنّ الاقتصاد ليس مجرّد تبادل سلعي، بل علاقة وجودية بين الإنسان والعالم.

هذا الموقف الماركسي إذا قَرَنَ بموقف آدم سميث، نجد مفارقة لافتة. فسميث، في كتابه "ثروة الأمم"، رأى أنّ مصلحة الفرد الخاصة تقود بطريقة غير مرئية إلى المصلحة العامة، عبر ما أسماه "اليد الخفية". أما ماركس، فقد وجد أنّ هذه اليد ليست سوى قناع يخفي الاستغلال المنهجي، وأنّ ما يبدو كتبادل مُتكافئ يخفي في جوهره علاقة غير متكافئة بين رأس المال والعمل. كذلك، فإنّ ريكاردو رغم حديثه عن صراع بين الأجور والأرباح، لم يذهب إلى حدّ اعتبار هذا الصراع مُحرّكاً للتاريخ، بينما جعل ماركس من هذا الصراع الطبقي حجر الزاوية لفهم المجتمع.

ما زال نقد ماركس للرأسمالية يحتفظ براهنيته

البعد التاريخي في فلسفة ماركس لا يقلّ أهمية عن بعده الاقتصادي. لقد عاش ماركس في زمن الثورة الصناعية، حيث كانت أوروبا تشهد تحوّلات كبرى: توسّع المدن، ظهور طبقة العمال "البروليتاريا"، واتساع الهوّة بين الأغنياء والفقراء. هذه الوقائع لم تكن مجرّد خلفية لنظرياته، بل مادة أساسية في صياغتها. فماركس رأى أنّ الرأسمالية مرحلة تاريخية ضرورية، لكنها تحمل بذور فنائها في ذاتها، لأنّ استغلالها المُتزايد سيؤدي إلى أزمات دورية متلاحقة، وإلى وعي الطبقة العاملة بقدرتها على إسقاط النظام القائم.

ومع ذلك، فإن مشروع ماركس لم يكن مجرّد استدلال عقلي أو توقّع منطقي لانهيار الرأسمالية، بل رؤية فلسفية لمجتمع بديل. ففي نقده لبرنامج غوتا كتب: "من كلّ حسب طاقته، ولكل حسب حاجته"، واضعاً بذلك مبدأً أساسياً لمجتمع شيوعي يتجاوز منطق التبادل الرأسمالي. غير أنّ الأهم إيمانه بقدرة الإنسان على استعادة ذاته من خلال عمل غير مغترب، عمل يحقّق الفرد والجماعة معاً.

مثّلت الفلسفة الاقتصادية لماركس محاولة جذرية لفهم العالم من أجل تغييره

اليوم، بعد أكثر من قرن ونصف على كتاباته، ما زال نقد ماركس للرأسمالية يحتفظ براهنيته. فمسائل مثل التفاوت الطبقي، سيطرة رأس المال المالي، واغتراب الإنسان عن ذاته وعن عمله في ظلّ العمل المُفرط لم تفقد أهميتها. وإذا كان الاقتصاد المعاصر قد طوّر أدوات جديدة، فإنّ الأسئلة الماركسية الكبرى لا تزال قائمة: ما معنى العمل الإنساني؟ ما حدود العدالة في التوزيع؟ وكيف يمكن للمجتمع أن يتجاوز علاقات الهيمنة والاستغلال؟

لقد مثّلت الفلسفة الاقتصادية لماركس محاولة جذرية لفهم العالم من أجل تغييره، كما كتب في "الأطروحات على فيورباخ": "لم يفعل الفلاسفة سوى تفسير العالم بطرق مختلفة، لكن المهم تغييره". ومن هنا تكمن قوّة إرثه: أنه لم يقدّم مجرّد نظرية اقتصادية، بل مشروعاً فلسفياً نقدياً يربط بين الفكر والممارسة، بين التاريخ والاقتصاد، بين الإنسان والعالم.