ماذا بعد الصراع في الشرق الأدنى؟
لم يكن أكثر متفائلين ليتوقّع انتهاء أزمة السوريين وسقوط نظام الأسد، بالطريقة التي سقط بها، وأن يكون دخول المعارضة دمشق كشرب الماء، والقوى العالمية والإقليمية كلها، سواء الداعمة لنظام الأسد أو الداعمة للمعارضة، تتابع في صمت، ثم بعدها، وبكلمة واحدة يخضع الإسرائيليون لترامب ويذهبون نحو إيقاف الحرب على غزة هكذا وعلى حين غفلة.
فما هي كلمة السر في كل هذا؟ وما الذي حمل الجميع على إيقاف حروب لم يكن يخطر على خيال متخيل أو وهم متوهم، أن تكون نهايتها قريبة وبهذه السرعة؟
أوراسيا وشرق آسيا... كلمة السر
إن كلمة السر هنا هي أوراسيا (والمراد بها هنا المعنى السياسي لا الجغرافي)، فالأطراف العالمية (أمريكا وروسيا والصين) والإقليمية (تركيا وإيران) التي كان لها دور كبير وكانت فاعلًا رئيسًا في الصراع الحاصل في الشرق الأدنى، تريد جميعها أن تتفرغ للصراع في أوراسيا.
فأما الولايات المتحدة التي كانت تعوّل على إسرائيل في القضاء على حماس، خاب ظنها، وأيقنت أن ما تقوم به من تمويل إسرائيل في حربها الأخيرة على غزة يثقل كاهلها ويستنزفها، وأن حماس لا يمكن القضاء عليها أو تنحيتها من المشهد الغزاوي والفلسطيني عمومًا، وهي، أي الولايات المتحدة، تريد أن تتفرغ لروسيا والصين، ففرض عليها منطق الأحداث أن تذهب إلى إيقاف الحرب على غزة حتى لا تزداد خسائرها ولا تستنزف وتتجهز للصين وروسيا.
أما روسيا، وبعد أن حاولت الضغط على بشار الأسد ليطبّع العلاقات مع تركيا، ويتم إنهاء الصراع في سوريا وفشلت في ذلك، رفعت يدها عنه، بعد أن ضمنت البقاء في قاعدتي حميميم وطرطوس (وهذا غالب الظن بعيدًا عن الضغوطات الغربية على الحكام الجدد لسوريا لقطع علاقاتها مع روسيا)، وامتنعت عن توفير غطاء جوي له ضد قوات المعارضة.
وقد كانت روسيا تطمع أن يوافق الأسد على التطبيع مع تركيا لتتفرغ إلى عمليتها العسكرية في أوكرانيا، وإلى الصراع جنوب القوقاز، خاصة بعد التوغل الغربي عن طريق فرنسا وألمانيا في أرمينيا، وما يحدث في جورجيا من محاولة لإخراجها من النفوذ الروسي وضمها للاتحاد الأوروبي.
وأما الأتراك فيرون في آسيا الوسطى امتدادهم القومي والتاريخي أولًا ومنفذهم للتوسع الاقتصادي ثانيًا، حتى أن المؤسسات التعليمية في تركيا قررت مؤخرًا تغيير اسم "آسيا الوسطى" بالمناهج الدراسية واستبداله بـ"تركستان"، أي موطن الأتراك، وهذا سيجعلهم في صراع مباشر مع الروس ومع الإيرانيين.
إيران هي الأخرى بدأت تتجه نحو آسيا الوسطى، سواء من خلال وجودها بصفة مراقب في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، أو من خلال العلاقات الثنائية مع دول المنطقة، كما أنها تريد الحفاظ على وجودها القوي في أرمينيا في حالة الاستقطاب التي تنتهجها فرنسا وألمانيا.
خلاصة: إن إيقاف الحرب في الشرق الأدنى، ما هو إلا سبب وبداية لصراع قديم جديد لم يكن ظاهرًا، وهو الصراع على أوراسيا (بمعناها السياسي) والمنتصر في هذا الصراع، هو الذي سيحدد الشكل الذي سيكون عليه مستقبل العالم في السنوات القادمة.