مادة الفلسفة وجوهر قضية الحرية

06 يونيو 2025   |  آخر تحديث: 17:37 (توقيت القدس)
+ الخط -

أخذ الامتحان الوطني الخاص بمادة الفلسفة؛ ضمن اختبارات البكالوريا المغربية (الثانوية)؛ منعطفًا فاجأ الجميع. حيث صُدم التلاميذ بغياب درس "الوضع البشري"، والذي اعتادوا على توقّعه في الامتحانات الوطنية، والاستعداد للكتابة المقالية تخصّ موضوعًا يطرحه للنقاش. غير أنّ الموضوع/ المفاجأة كان وفق التالي: "إن فَعل كل مواطن ما يحلو له فلن تكون هناك حرية أبدا". انطلاقا من القولة بين(ي) هل يتعين تقييد أفعال الإنسان بالقانون كي تتحقق حريته". 

القول المطروح في الامتحان هو للفيلسوف الفرنسي إيتين بونوا دي كوندياك. وبينما تحدّث الجميع عن المفاجأة وضرورة إنصاف التلاميذ وفق تعاقد بيداغوجي واضح يراعي استعدادتهم، توارى النقاش عن جوهر المقولة. حيث لا بُدّ أن تصبح مواضيع امتحان الفلسفة الوطنية مناسبة لمناقشة علاقتها بالمشكلات الراهنة للمجتمع. وهذه سُنة حميدة يَحسُن ترسيخها كلّ سنة بدل اختزال الاختبار في الجانب التقني الخالص. وقد شدّ انتباهي اختيار "كوندياك" تحديدًا. 

لقد عاش "كوندياك" تحت ظلّ فرنسا المَلكية، غير أنّه كان تنويريًا في الفلسفة وصاحب أفكار ثورية في الاقتصاد، إلا أنّه اتخذ أطروحات محافظة ومليكة في السياسة. وقد تصوّر أنّ تشريعات الدولة يجب أن تناسب الطبيعة البشرية، كما على المواطن طاعة القوانين ضمن إطار العقد الاجتماعي الذي يحافظ على الحريات "المعقولة". وما دامت "حالة الطبيعة" قد اتسمت بالفوضى فقد فرضت الانتقال إلى حالة التعاقد والتعاون بين الناس حتى يلبوا حاجاتهم. لذلك أكّد كوندياك أهمية ثلاثة قوانين طبيعية: أولًا، عبادة الله، وهي أوّل قانون طبيعي. ثانيًا، يولد الناس سواسية. نتيجة ذلك، إنّ القانون الثالث يمنح الناس الحقّ في الدفاع عن أنفسهم، وأنّ على المرء أن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه. لذلك، فإنّ تجنب الأذى يوجب إنشاء عقد اجتماعي لضمان تحقيق الناس لمصالحهم بطرق مستنيرة. لذلك علينا أن نجد مصلحة كلّ مواطن متضمّنة في مصالح المجتمع العام، حتى يتمكنّ رجل الدولة من تدبير المصالح المُتعارضة في انسجام من دون تفضيل طبقة على أخرى.

تحوّل درس الفلسفة إلى عملية حفظ وتكرار عبر كتابة مقالات مُعلّبة وركيكة وجاهزة

لقد اتسمت فلسفة كوندياك بنزعة تجريبية متأثّرة بالفلاسفة الإنكليز، وخاصة فلسفة جون لوك التجريبية، غير أنّ كوندياك تبنى مذهبًا حسّيًا أكثر صرامة مُخالفًا التقاليد الفرنسية التي تعلي من مكانة العقل والأفكار في فهم العالم. لكن الملاحظ أنّ كوندياك لم يتبن الفلسفة المادية، بل ظلّ محافظًا كاثوليكيًا يفسح مجالًا للإيمان حيثما استطاع، داعيًا إلى طاعة القوانين بالموازاة مع تربية المواطنين على ربط الحرية بالمسؤولية الأخلاقية أمام أفعالنا. وهذا ما يبدو مهمًا في فلسفة رجل كان صديقًا لجون جاك روسو ومرشدًا للأمير فيردناند (حفيد الملك لويس الخامس عشر). 

المقولة أعلاه، تفسح إذن مجالًا واسعًا للتأمّل في إشكالية تحرير الفعل الإنساني من الاستبداد، لكن من دون تناسي القلق الرهيب من احتمال الوقوع في براثن الفوضى والنزاع والانهيار الذي يصيب الدول والمجتمعات. خاصة إذا تأملنا الموضوع في ارتباطه بالوقائع الراهنة للدول في منطقة شمال إفريقيا وغيرها.

وهذا التفاوت بين فلسفة كوندياك التنويرية مقابل نزعته المحافظة في المجال السياسي تمنحنا إمكانية مهمّة لمناقشة هذه المعضلة الراهنة، أي الاستبداد والفوضى. وما ينتج عن ذلك من ضرورة التنوير، والتربية الأخلاقية، خاصة في مجال التعليم. وإذا عدنا إلى الجدل الذي أثاره الامتحان، نلاحظ أنّ درس الفلسفة قد تحوّل إلى عملية حفظ وتكرار عبر كتابة مقالات مُعلّبة وركيكة وجاهزة. لكن، من خلق لدى التلاميذ هذا التوقّع الدائم؟

إنها الاختبارات التي تقدّم إطار الدرس نفسه بشكل متكرّر. وقد قدّمت نفس الدروس المتوقّعة ضمن الامتحان نفسه المُخصّص لشُعب الآداب والعلوم الإنسانية. بينما اقتصر موضوع الجدل على اختبارات الشعب العلمية والتقنية. لذلك فإن تحميل التلميذ المسؤولية وحده أمر لا يأخذ الصورة المُكتملة، الأمر الذي ينبّهنا إلى المسؤولية المشتركة أمام قضية التعليم بوصفها قضية المجتمع الأولى. 

حاتم تنحيرت
حاتم تنحيرت
أستاذ مادة الفلسفة في الثانوي التأهيلي، وحاصل على درجة الماستر بعلم الاجتماع. يعبّر عن نفسه بالقول "لا توجد مقولة تختزل الإنسان".