ليلة إعلان وقف إطلاق النار في لبنان

28 نوفمبر 2024
+ الخط -

كانت ليلةً لا كالليالي السابقة للنزوح، وأعني ليلة وقف إطلاق النار في لبنان.

 كانت هناك عدّة مواعيد، فالصحافة العبرية أكّدت أنّ موعد وقف إطلاق النار في العاشرة من صباح يوم الأربعاء، بينما فُهم من تصريح الرئيس جو بايدن أنّ موعد وقف إطلاق النار في الرابعة من فجر الأربعاء، بالتوقيت المحلي، لكن هل هو التوقيت الأميركي أم اللبناني؟ لم أعرف.

كانت ليلة الثلاثاء "حمراء"، حوّلها الاحتلال إلى جمرٍ. عشرات الإنذارات والتهديدات وُجِّهت إلى سكان الضاحية الجنوبية لبيروت، ومدينة صور جنوباً، سبقها، خلال ساعات النهار، استهداف مبنى في منطقة "النويري" في عاصمة بيروت الإدارية.

قُبيل حلول ليل الثلاثاء بقليل، التقيت بصديق، أخبرني أنّ زوجته تتخوّف عليه من الوجود في بيروت في أماكن عرضة للاستهداف. كنت وإياه نشاهد ما تنقله الشاشات، من قذائف وصواريخ تتساقط كالمطر على الضاحية، مخلّفة أعمدة دخانية سوداء وبيضاء، كنَّا نتوقع قصفاً عنيفاً هذه الليلة، ذلك أنّ الاحتلال الإسرائيلي في حرب تموز عام 2006 قام بمجازر قبيل وقت تنفيذ وقف إطلاق النار. وبالتالي في ذاكرتنا، ومن خلال التحذيرات التي أطلقها مراقبون من ضرورة الانتباه في الساعات الأخيرة، كنّا نتوقع الأسوأ.

كنا نرتشف القهوة معًا ونتبادل أطراف الحديث عندما قاطعت حديثنا إنذارات وصلت إلى هواتفنا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وجّهها الاحتلال، ويقول فيها إنّه ينوي قصف مراكز "القرض الحسن" في بيروت، وهو مكان قريب من سكن صديقي. سارعنا بتوضيب أغراضنا، وتوجّهت إلى منزلي المؤقت في بيروت بعد نزوحي من الضاحية. وفي الطريق، وصل إلينا إنذار باستهداف مكان في منطقة رأس بيروت، تلك المنطقة التي أقطنها. كان المكان يبعد مئات الأمتار عن مسكني، وبدأ الناس في الطرقات يتداولون عن مكانين سيُستهدفان في منطقة رأس بيروت.

كنَّا نتوقع قصفاً عنيفاً قبل بدء وقف إطلاق النار، ذلك أنّ الاحتلال الإسرائيلي في حرب تموز عام 2006 قام بمجازر قبل ساعة وقف إطلاق النار

توارد إلى ذهني مباشرة أنّ هذه الليلة ستكون صعبة وشاقة؛ ماذا لو وسّع الاحتلال من استهدافاته في بيروت؟ لقد اعتاد الناس على استهداف ضاحية بيروت الجنوبية، أمّا بيروت الإدارية، فقد بقيت بعيدة نسبياً إلّا من بعض الضربات، وأمّا منطقة رأس بيروت أيضًا، فلم تُستهدف، كما أصبحت مدارسها مأوى للنازحين.. والإنذار الأخير في تلك المنطقة، ماذا يجري؟

سارعت الخطى إلى المنزل، وخلال مسيري، وجدت الناس تخرج أفواجاً، لا تعلم أين يمكن أن تذهب. اتصلت بزوجتي وطلبت منها أن ترتدي ثيابها، وأولادي كذلك، وتجهز ما هو ضروري كالأوراق الثبوتية، كي نغادر المنزل. لم تقتنع زوجتي، فبدأ صوتي يعلو في الشارع .

وصلت وسألت مالك المبنى الذي أقطنه عن المنطقة المُعلن استهدافها، فقال المبنى في نزلة شارع ما يعرف بـ"جريدة السفير"، وهو لا يبعد سوى مائة متر من مكان المقهى الذي كنت مع صديقي نرتشف فيه القهوة.

دخلت المنزل متوتّراً مطالباً بالإسراع في ارتداء الملابس وتجهيز الحاجيات الضرورية. وبعد أن تأكدت أنّ أولادي تناولوا طعام العشاء وغادرنا المبنى، سألتني زوجتي:

-إلى أين؟ 

-إلى البحر.

وخلال المسير، استعاد ذهني مشاهد النزوح في غزّة، أفواجٌ من الناس توجّهت إلى البحر، وزوجتي ما زالت تمشي متثاقلة وغير مقتنعة البتة بما أقوم به. أسبقها في المشي وأنظر إلى الخلف لأشاهدها تمشي وكأنّها تتسوّق. وقبل وصولي إلى البحر بقليل، دخلتُ إلى أحد الدكاكين واشتريت بما تبقى معي من مال قليل ماءً وقليلًا من الطعام. قلت: لعلّها تكون ليلة طويلة، ماذا سأفعل مع ولدين وزوجة؟ وصلنا إلى البحر، في منطقة "الحمام العسكري"، ثمّ توجّهنا إلى منطقة أخرى اسمها "عين المريسة". شاهدت النساء والأطفال في ألبسة النوم، والرجال والشباب، والعائلات تتخذ من مركباتها مسكناً في البحر، في بحر غزة! لا إنّه المشهد يتكرّر من جديد، إنّه بحر بيروت.

أبقيت هاتفي على حساب المدعو أفيخاي أدرعي لمتابعة الإنذارات والتهديدات. دارت في عقلي أمور مخيفة؛ ماذا لو أشعل الاحتلال بيروت؟ أين سنقضي الليلة ومعي طفلان؟

دارت في عقلي أمور مخيفة؛ ماذا لو أشعل الاحتلال بيروت؟ أين سنقضي الليلة ومعي طفلين؟

اتصل بي صديق من منطقة "أرض جلول" في بيروت عارضاً منزله لقضاء الليلة، فعائلته نزحت منذ أوائل العدوان إلى منطقة عكار شمالي لبنان. شاورت زوجتي فرفضت. قلت في نفسي: وما أدراني أّن "أرض جلول آمنة"، فلقد استهدف الاحتلال في السابق منطقة "الطيونة" القريبة جداً من أرض جلول، والليلة ما زالت في بداياتها، ومن المحتمل أن تُستهدف. "لا مناطق آمنة في غزّة ولا في بيروت.. لعلّ البحر آمن أكثر" قلت لنفسي.

بعد قضاء ساعة لم تُستهدف نزلة "جريدة السفير". فقلت في نفسي: "البقاء في الهواء البارد في البحر، مع طفلين مشكلة". طلبت من زوجتي العودة من المنزل مع طلبي منهم البقاء على أهبة الاستعداد في حال توجيه إنذار.

انفرجت أسارير زوجتي. وفي طريق العودة، بدأت أسأل الناس إذا سمعوا صوت انفجارات في منطقة رأس بيروت، وأين هو مكان الاستهداف؟ أسمع جواب النفي وأمشي، وزوجتي تشكر المُجيب، لألتقي بآخرين جدد وأوجّه السؤال نفسه وألقى الجواب نفسه وأمشي فيما زوجتي توجّه الشكر لهم مع عتاب لي. تقول: قل للناس شكراً!

وصلت إلى جانب شاب يجلس على الكرسي، الأسئلة نفسها، وزوجتي تشكر مع لهجة عتاب مرتفعة أكثر: اشكر الناس! وعندما وصلت إلى وفدٍ رابع، رفعت زوجتي صوتها: كفانا أسئلة بلا شكر، كفى إحراجاً!

ماذا أصابني؟ أسأل ولا أشكر! كنت أفكّر: ماذا سأفعل وأنا مسؤول عن عائلة في هذه الليلة؟

أعان الله غزة، التي تخلّى عنها العرب، ولبنان لم يعد يحتمل أكثر

وصلنا إلى المنزل، وعدت لأوجّه إرشاداتي من جديد، ضرورة عدم خلع الملابس؛ إبقاء أجهزة الاتصال مفتوحة؛ ضرورة شحن الهواتف والبطاريات الداعمة للهواتف؛ توجيه خاص لزوجتي: تابعي حساب المدعو "أفيخاي".

لم أستطع البقاء في المنزل، نزلت إلى الشارع حريصًا على أن أكون في مكانٍ غير بعيد عن منزلي، عين على حساب المدعو "أفيخاي" وعين على آخر ما تبثه وسائل الإعلام اللبنانية. قضيت ليلتي متجوّلاً، وفي المقاهي، إلا أن قام الاحتلال باستهداف نزلة "جريدة السفير" بصاروخ وشاهدت بعيني أعمدة الدخان. كانت الطرق إلى ذلك المكان مغلقة، الناس تجلس في المقاهي وأفراد من عناصر أحزاب لبنانية تطالب الناس بالحذر وعدم التجوّل، لكن الناس ربّما مثلي، لم تطق الجلوس في المنزل، قضت ليلتها حتى الصباح في المقاهي، تنتظر الساعة الرابعة، أي موعد وقف إطلاق النار، وتعد نفسها بالرجوع إلى منازلها في الضاحية والبقاع والجنوب، وتعدّ الثواني التي أصبحت طويلة كالدهر.

عاد الناس في اليوم التالي أفواجاً الى منازلهم، ولم يأبهوا بتهديدات الاحتلال بعدم دخول القرى الحدودية التي ما زال الاحتلال الإسرائيلي فيها خلال مهلة الستين يوماً. عادوا رافعين شارة النصر فداءً للمقاومة في لبنان وفلسطين، فيما الفرحة تخنقها الغصّة على فراق جبهة الإسناد لغزّة، إلا أنّ للضرورة أحكاماً، فرضها التآمر والتخلّي العربي.

انتهت ليلتي الطويلة، بعد أن صليت الفجر في أحد المساجد، وتوجّهت إلى منزلي المؤقّت، ليتبادر إلى ذهني: هل فُصلت جبهة لبنان عن غزّة؟ وماذا عن غزّة؟ 

أعان الله غزة التي تخلّى عنها العرب، ولبنان لم يعد يحتمل أكثر. وضعت رأسي على وسادتي، وفي ذهني أسئلة مؤجّلة لما بعد الحرب، أسئلة حضرت الآن وبقوّة، بعد أن توقف صرير الرصاص: منزلي في الضاحية، هل أصابته الأضرار؟ وماذا عن الإيجارات التي لم أدفعها خلال الحرب لصاحب المنزل، وهو لم يطالبني بها؟ هل سيرفع الإيجار؟ وماذا عن مصاريف المدارس و...؟ هل عادت الحياة الطبيعية وأكلافها من جديد؟

 قلت في نفسي: "ربَّك الذي دبَّرك بالحرب، سيدبِّرك في السلم".

 اتركها على الله.