لنتذكر نحن... أحمد مناصرة

لنتذكر نحن... أحمد مناصرة

20 يونيو 2022
+ الخط -

يقترب عيد الأضحى، وعلى المائدة سوف يوجد المعمول الفلسطيني، والقهوة السادة، وقطع الحلوى، والمكسرات، ولكن "أحمد" لن يكون موجوداً، حيث سريره ما زال فارغاً، وتحت الوسادة لن يخبئ أحمد ملابس العيد ككل الأطفال الذين يشعرون بالبهجة بقدوم العيد للحصول على ملابس جديدة.

بل هو الآن داخل زنزانة العزل النفسي، حيث إنه يقبع هناك لأنه حاول الدفاع عن حقه بالحصول على عيد يذهب فيه إلى أقاربه دون حاجز للاحتلال، وأيضاً الحصول على ملابس دون جندي صهيوني يقوم بتفتيشها، وعلى وسادة عليها عطر الملابس، ذلك العطر الذي يذكره بحقه كطفل بالحياة.

يعتبر الأسير الطفل أحمد مناصرة، والذي يعرف أكثر بجملة "مش متذكر"، هو أحد الأطفال الذين يندرجون تحت الأقاصيص عن "الأطفال الأبطال"، قام مناصرة بتنفيذ عملية طعن في القدس مع ابن عمه الشهيد حسن مناصرة، بتاريخ 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2015، نقل أحمد إلى المستشفى وهو بين الحياة والموت مكبل اليدين وكان الاعتقاد السائد أن أحمد قد استشهد ولكن ظهر لاحقاً أنه حي، ولتقوم المحكمة العسكرية الاسرائيلية بتاريخ 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 بالحكم عليه لمدة 12 سنة، وعندما حاول محامي الدفاع رفض الحكم قال  القاضي: "إن صغر سن الطفل لا يمنحه الحصانة من فرض العقوبة"، وهذا يعني أنه تمت معاملة أحمد على أنه "مجرم".

تعرض أحمد إلى أقسى أنواع التعذيب الجسدي والترهيب النفسي واستخدام أسلوب التحقيق الطويل دون توقف، والحرمان من النوم والراحة، وتعرض إلى ضغوطات نفسية كبيرة، ونتيجة للتعذيب الجسدي والتنكيل النفسي عانى من آلام مزمنة وحادة، وما زال يعاني من اضطراب نفسي نتيجة ظروف العنف، منها الكسور في الجمجمة، ونتيجة لعزله في زنزانة ضيقة وعدم السماح له بالاختلاط مع باقي الأسرى، حيث إن أحمد تعلم منذ طفولته النطق، ولكن السجن يريد منه الصمت، هذا الصراع يعيشه أحمد كل دقيقة.

يحتاج أحمد ليتجاوز سنين السجن إلى الدعم والمؤازرة بعدما أصبح رفيقاً لجدران الزنزانة الضيقة يتألم ويتوجع وحده، ويتحدث مع نفسه

مارس الاحتلال على الأسير أحمد نظام الردع الخاص من خلال "العقوبة" التي فرضها عليه بالسجن تحت ظروف قاسية، ومارس أيضاً الردع العام من خلال نشر مقاطع لأحمد بعد إطلاق الرصاص عليه، بالإضافة إلى منع عائلته من زيارته داخل السجن، ويأتي هذا الردع ضمن منظومة شاملة طورها الاحتلال لمعاقبة أحمد جسدياً ونفسياً وعائلته في آن واحد.

ولد أحمد في رحم الانتفاضة الثانية "انتفاضة الأقصى" بتاريخ 22 يناير/ كانون الثاني 2002 وعاش القهر والقمع منذ طفولته في أزقة القدس وخصوصاً في بلدة بيت حنينا، وشاهد عن قرب الحواجز العسكرية التي تقف عائقاً بينه وبين مدرسته، وشاهد أيضاً المستوطنين الذي أحرقوا الطفل محمد أبو خضير، وقرأ بعد ذلك عن اقتحام شارون للمسجد الأقصى، ووجد نفسه فجأة صاحب شعار "مش متذكر"، الذي سيبقى كلمة السر لصمود الأطفال أمام وحشية الاحتلال وهمجيته، وليصبح رمزا للطفولة الفلسطينية المنتهكة.

إن السجن بحد ذاته يريد منه الاحتلال أن يحوّل أحلام الأطفال إلى المحرقة والهلاك، ويزرع من خلاله حالة من الإحباط في فكرة التحرر والخلاص، وهذا الاحتلال يعلم أن أحمد وأمثاله من الأطفال هم الجيل القادم الذي سوق يتواجه معه خصوصاً بعد فشل نظرية غولدا مائير "الكبار يموتون والصغار ينسون"، فقد أصبح الصغار يقومون بتنفيذ عمليات ضد جنود الاحتلال، ويوجدون في مناطق الاشتباك، ولذلك ارتفعت في السنوات الأخيرة نسبة الاعتقالات بحق الأطفال، ويمارس الاحتلال عليهم الضرب الشديد منذ لحظة الاعتقال بواسطة البنادق والارجل والدعس عليهم من قبل الجنود، وأيضاً التعذيب والشبح والإهانات والتهديد خلال عمليات الاستجواب، بالإضافة إلى استخدام أساليب وحشية ولاأخلاقية يتعرض لها الأطفال من أجل هدمهم نفسياً من الداخل.

يحتاج أحمد ليتجاوز سنين السجن إلى الدعم والمؤازرة بعدما أصبح رفيقا لجدران الزنزانة الضيقة يتألم ويتوجع وحده، ويتحدث مع نفسه، ويعيش حالة من التخيلات والأحلام التي لا يقوى أمامها الإنسان، ويحتاج أيضاً إلى حاضنة اجتماعية في غرف السجن، أو في الفضاء الخارجي تساعده على تجاوز الأزمة النفسية وهو العلاج الأمثل، والأهم من ذلك يحتاج أحمد مناصرة إلى "الحرية" التي يقول فيها غسان كنفاني "أنا أحكي عن الحرية التي لا مقابل لها، الحرية التي هي نفسها المقابل".

أحمد مناصرة هو الطفل الذي استطاع فهم أن الاحتلال هو "الغولة" التي كانت تطعمه يومياً هو وشعبه من أجل أن تأكلهم، ولذلك قرر أن يقتل "الغولة" وأن يأخذ خرفانها وبيوتها وكل شيء في قرية "الغولة" لأنه يعلم إذا بقيت على قيد الحياة سوف تقوم بقتلهم ولن يستطيع أحد أن يدخل القرية التي تعيش فيها.

إذا كان "أحمد" لا يتذكر ماذا فعل، لنتذكر نحن ماذا فعل به الاحتلال، وماذا أيضاً فعل بالطفولة الفلسطينية، لنتذكر وعاء القهوة الذي تقوم أمه بصناعته وهي تقول: "أحمد طفلي الذي أتذكره كيف كان حنوناً، ومع كل قطعة طعام يأتي أحمد إلى عقلي كدمعة"، ولنتذكر أيضاً أنه ما زال هناك احتلال يقتل فرحتنا الأولى، والأخيرة، ويقتل حق أمه في ترتيب سريره، وخزانة ملابسه، ويقتل حق أحمد في قطف وردة وتقديمها للطفلة التي أحبها في الحي الذي يسكن فيه، والتي ربما كان سوف يتذكرها حتماً حين ينضج، حيث هنا الاحتلال قتل الحب، الحب أولاً، الحب أبداً.

دلالات

ثائر أبو عياش .. فلسطين
ثائر أبو عياش
كاتب فلسطيني، حاصل على شهادة في علم الاجتماع وأستكمل دراستي العليا في علم الجريمة. ناشط شبابي، أسير سابق لمدة عامين وشقيق الشهيد الطفل مهدي أبوعياش