لماذا ينتصر الأشقياء؟ (1)

لماذا ينتصر الأشقياء؟ (1)

16 فبراير 2021
+ الخط -

الضوابط الأخلاقية للتعامل مع الأشرار والكوارث الإنسانية

أسفرت الأحداث السياسية والكوارث المجتمعية والكونية التي تواترت وتعاقبت في الآونة الأخيرة والتوظيف الإعلامي الخطير عن حرائق في العقل الجمعي، والمجتمعي، أوقدها زيف الكلمات وبريق الألوان المضللة..

فالكلمات ليست حروفاً تطلق في الهواء بل ربما هي سيوف تقطع الأعناق والأرزاق. في الكلمات وفي البناء الفكري حياة النفوس وهلاكها، ولكن لا قيمة لأي كلمة مهما ادعت قدسيتها ما لم تتم نمذجتها، أي تجسيدها، وهذا ما يدعونا لأن نصمد ونتمترس بالكلمة الصادقة والمعرفة وكذلك بإيجاد البديل العملي والقدوات التي تنقل الأفكار من عالم التجريد إلى واقع التجسيد.

فالكلمة المطبقة بمنزلة مفاتيح الوصول إلى باب القبول الإنساني والصلاح الفردي والإصلاح المجتمعي. ومنطلق الكلمة المفكرة يعود إلى ماهية الثقافة الذاتية لأي مجتمع ويؤسفنا القول:
إن بلادنا في واقعها غير مكترثة بوعي وفكر وثقافة بل إن ثقافتنا كما يذكر د. جلال أمين الآن لا توصف بالتأخر أو التخلف بل «بالإرهاب»، والمطلوب الآن ليس الارتقاء بهذه الثقافة بحيث تتكيّف مع متطلبات التنمية الاقتصادية، على أساس أن هذه هي طريقة التعامل المناسبة مع «التخلف»، بل المطلوب الآن استئصال هذه الثقافة من جذورها، على أساس أن هذه هي طريقة التعامل المناسبة مع «الإرهاب». ما أعظم هذه الرحلة إذن التي قطعناها، منذ أن قبلنا بحسن نية شعار التنمية الاقتصادية في منتصف القرن الماضي، ولم نعترض على اعتبار ثقافتنا عقبة من عقبات التنمية، وحتى أصبحت ثقافتنا تعتبر ليس مجرد تربة ملائمة لتفريخ الإرهاب، بل أصبحت تعتبر مرادفاً للإرهاب واسماً آخر له..

إن الاعتماد على الثقافة الذاتية لا يعني تحويلها إلى ضريح يعبد أو سور يحول دون هبوب رياح الاطلاع والانفتاح والتجدد لكن ذاتية الثقافة تعني أن ثمة رؤية معرفية لها قسمات هوية وبصمات مجتمع له لغة وتاريخ وتراث، ومن البدهي أن نذكر أن أصول ثقافتنا لا تختلف عن أصول ثقافات عالمية أخرى، بل إن القواسم الإنسانية العامة في مكوناتها مشتركة بين كل الثقافات، فكل البشرية، الإنسان العاقل Homo sapiens، رغم اختلاف الأعراق والأعراف والمعارف تقر بأن لها فهماً ورؤية يحكمان تعاملها مع الكون والوجود والطبيعة والحياة والموت، فقد أدرك الإنسان أن النجاح والفشل في عمل ما يعودان إلى كيفية فهم هذا العمل وكيفية الإنجاز من حيث التخطيط والتنظيم والتنفيذ، ومع كل تقدم ثمة عجز وإخفاق وساحات من الجهل تتكشف بل قد تقع الأحداث غير المتوقعة أو غير المفهومة وتخرج عن سيطرة البشر، كالمرض والموت والعواصف والزلازل والفيضانات وغير ذلك، وقد تؤدي إلى نجاح أو فشل أعمال الناس، وبناء على ذلك أقرّ الإنسان أن وجوداً قوياً وراء الطبيعة أو فوق الطبيعة المحسوسة والمعقولة هو الذي يتحكم في هذه الأحداث ونتائج الأعمال.

أصبحت القوى فوق الطبيعية فكرة متماسكة ومنظمة وموحدة في ذات واحدة، تتميز بالقدرة والحكمة الفائقة والخلود

وتتباين المجتمعات البشرية في تصورها ومعتقداتها عن تلك القوى فوق الطبيعية فبعضها يقول:

1- إنها شعور عام وغیر مشخص في ذات محددة، بل قوی منتشرة في الوجود كله من كواكب ونجوم وأحجار وأنهار وأشجار وحيوان وإنسان، ولها مسميات متنوعة.

2- ويعتقد البعض الآخر أن تلك القوى فوق الطبيعية هي ذات محددة في صورة آلهة.

وقد سبق التصور الأول التصور الثاني في الوجود، وإن كانت له بقايا في بعض المعتقدات المعاصرة، وهناك من المعتقدات ما يجمع التصورين معاً.

ويقول المختصون: 
إن التصور الأول يعكس المعتقدات الأولية للإنسان البدائي ويتصف مفهومه العقائدي بعدم وجود حدود فاصله بین عقل الإنسان والعالم المحيط به، أو بين الجسم والروح أو بين الحلم والحقيقة، بل إن هناك التحاماً وانصهاراً بين كل هذه الجوانب في بعضها البعض؛ وعلى ذلك فالقوى فوق الطبيعية منتشرة في كل شيء بصورة غامضة، وقد تكون إيجابية فتساعد الإنسان على تحقيق ما يرغب أو تكون سلبية فتمنع الفوائد وتزيد النكبات؛ ونصيب الأفراد من هذه القوى ونوعها يتفاوت، وعلى ذلك فالدين (العبادات) كنشاط نوعي للإنسان لا وجود له في تلك المجتمعات؛ لأن كل شيء وكل حدث عندهم متشرب بالقوی فوق الطبيعية، ومن واجب كل فرد أن يحرك تلك القوى للعمل لصالحه بممارسات متنوعة، مثل تقديم الأضحية أو الغناء والرقص والاحتفالات المقدسة.

ولا توجد في تلك المجتمعات البدائية شرائع مكتوبة تسجل معتقداتهم، وتلقي الضوء على ضمائرهم المرشدة لسلوكهم، بل أساطير يتناقلها الناس والأجيال، ويقول المتخصصون: إن تلك الأساطير قد تكون شروحاً بدائية لظواهر الطبيعة وتعبر عن عمليات نفسية في اللاوعي تهدف إلى توجيه واستمرار الحياة..

ظهر الدين كما نفهم اليوم في المجتمعات البشرية بعد الثورة الخضراء واستقرار الإنسان حول الأنهار بعد تركه لحياة الصيد، وقام بزراعة طعامه وتربية حيواناته، وتم توزيع العمل وتنظيم التعاون بين أفراد المجموعة لانجازه.

كل ذلك أدى إلى تطور وسائل الاتصال بين الناس، وخاصة اللغة، فزادت المفردات والأعداد والعلامات والرموز، ووضعت القواعد لاستخدام هذا كله، وساعد ذلك علی تشکیل وتطوير فهم الإنسان وإدراكه للوجود.

أصبحت القوى فوق الطبيعية فكرة متماسكة ومنظمة وموحدة في ذات واحدة، تتميز بالقدرة والحكمة الفائقة والخلود.

من هنا ظهرت فكرة الألوهية، وأصبح الإنسان مهيأ لاكتشاف وإدراك وجود الإله، لكن فكرة الألوهية تباينت بين المجتمعات البشرية على مر الأزمان، ومنها:

- الاعتقاد بالإله الواحد (الديانات السماوية الثلاث؛ اليهودية والمسيحية والإسلام).

- الاعتقاد بالإلهين (إله للخير وإله للشر كما في الديانة المانوية).

- الاعتقاد بآلهة متعددة (مصر الفرعونية وبلاد الإغريق والرومان).

- الاعتقاد بالإله الواحد ذي الأوجه المتعددة (زرادشت وكثير من العقائد الآسيوية). 
على العموم، لا يوجد اتفاق عام على تعريف محدد واضح لمصطلح الدين، بعيداً عن أصوله اللغوية، ولكن يمكن التعرف إلى ماهية الدين من خلال التعريفين العامين الآتيين:

1- الدين: استجابة فطرية لحاجة الإنسان لإدراك منظم للكون، تکون هناك آلية فعالة لتهدئة القلق والغموض، والخوف الذي يواجه الإنسان لعجزه عن توقع أو تفسير الظواهر، والأحداث التي لا تتفق مع معارفه المحدودة عن الطبيعة وقوانينها.

2- الدين: نظام حیاة يُبنى على علاقة الإنسان بالوجود، ذلك الوجود الذي خلق بترتیب مقدس بواسطة قوى فوق طبيعية، والإيمان بوجود شفرة لهذا الخلق وذلك الترتيب، في كتب مقدسة، سواء من وحي الإله أو من وضع الإنسان. وحتى يكون هذا النظام دينياً لا بد من توافر ثلاثة عناصر رئيسية:

1- العقيدة: كما نفهم اليوم، هي ما استقر في العقل وارتضته النفس كفهم أو نظرية عامة للوجود والطبيعة وما وراء الطبيعة، ودور الإنسان في الحياة والغاية النهائية من وجوده.

2- الشريعة: مجموعة القواعد والتعاليم التي تنظم وتضبط سلوك وحركة الإنسان في العالم المحيط، ومسجلة في كتب مقدسة تتناقلها الأجيال والأفراد.

3- العبادات: مجموعة الممارسات والأفعال التي تؤكد العقيدة والشريعة وتؤدي إلى إظهارها وتواصلها بين الناس، وهي في النهاية طريق إلى وحدة الجماعة وتماسكها الاجتماعي. النظرة الموضوعية تتطلّب أن نلقي بعض الضوء على بعض المعتقدات والتعاليم عن الكون والموجودات والإنسان وعلاقاتهم، والتي ظهرت بين شعوب قارة آسيا وانتشرت بين ملايين البشر الذين يشاركوننا الحياة على هذا الكوكب المئات، بل لآلاف السنين، ومن أشهرها الهندوسية والبوذية.

طبقاً للتعاليم الهندوسية فإن كل ما نحسه وندركه عن العالم والوجود من أشياء وأحداث ما هو إلا أوهام؛ وذلك لأن قيود الفكر واللغة لا تسمح للإنسان بغير رؤية العالم والوجود كأشياء منفردة أو أحداث منفصلة، وحتى يسهل استيعابها، يقوم الإنسان بوصفها و تحديدها، بل وقياسها كمياً، وهذا لا يتفق مع الحقيقة النهائية في رأيهم، وهي أن الوجود وحدة واحدة مترابطة بدليل أننا لا ندرك الشيء إلا بوجود نقيضه، فلا وجود للذة إلا بوجود الألم، ولا وجود للسعادة إلا بوجود الشفاء، ولا وجود للحياة إلا بوجود الموت.. وهكذا، وأن القوى فوق الطبيعية وروح الإله موجودة في جميع الأجزاء من أحياء وغير أحياء، وإذا سألت الهندوسي أن يحدثك عن وحدة الوجود وماهيته الحقيقية النهائية في نظره، يصمت أو يرد بلا أعرف؛ لأن ما سأقوله كلمات من عمل العقل الإنساني وكلها أوهام، ولكن يمكن أن تعيش الحقيقة النهائية ممارسة الشعور العميق والتأمل النافذ بما يسمى (اليوجا).

كان طبيعياً أن يظهر داعية، مثل جواتاما بوذا، وفي الهند أيضاً، ويحاول أن يشرح ويبسط الهندوسية بتعاليمه التي أطلق عليها البوذية والتي انتشرت خارج الهند واتبعها كثير من شعوب شرق آسيا في الصين واليابان وكوريا، وغيرها.

يقول بوذا -الرجل المستنير-: إن عذابات الإنسان وآثامه ناتجة عن أنانية الإنسان وشهواته، وجهله بالنسبية الكاملة للأشياء والأحداث.

ويدعو بوذا إلى التطهر الأخلاقي والسمو النفسي لذاته بدافع من إرادة الفرد بدون رجاء في جزاء أو خوف من عقاب، وتتجنب البوذية، مثل الهندوسية، وصف الحقيقة النهائية أو التعرض لإله خالق أعظم. وهناك أيضا من يعتقدون بتناسخ الأرواح في المخلوقات بشراً أو حيوانات، ثواباً وعقاباً على هذه الأرض..

يتبع..