لماذا عادت العصبية العشائرية في سورية؟ (1)

لماذا عادت العصبية العشائرية في سورية؟ (1)

14 يونيو 2022
+ الخط -

يعرف عن العشائر بشكل عام تبدل ولاءاتها وتغير اتجاهاتها بحسب مصالحها، والذي يتجاهله الكثيرون عندما يطلقون صفات التغير وسهولة الانقياد على العشيرة، هو أن ذلك خاص بالأسر التي تحكم العشيرة وتسودها، لا أفراد العشيرة أنفسهم..

ولتعدد الولاءات عند الأسر صاحبة الجاه داخل العشيرة أسباب كثيرة، ومن الطبيعي أنها تبحث عن مصالحها في الحفاظ على عدة امتيازات معنوية ومادية، منها بقاء وحفظ هيبة هذه الأسر، وأن تكون هي التي تتسيد العشيرة، ومن الامتيازات أيضاً السلطة على أفراد العشيرة، وأن تكون لديها القدرة على الشفاعة في حال اعتقل أحد أفراد القبيلة، وهذه الشفاعة تعطي الأسر وجوداً وقيمة داخل المجتمع القبلي، لذا فهي حريصة على أن تكون مقربة من أي جهة تملك سلطة ما، وهذ الشفاعة تفاخر بها الأسر..

ومن الامتيازات الأخرى التي لا يضحي بها مشائخ العشائر، هي تأسيس علاقة جيدة مع السلطة أيا كانت هذه السلطة (نظام - ثوار - قسد - .. إلخ)، وأن يكون لها حضور عند قادة هذه السلطة، والوجود بالمناسات، وأن يمدحوا ويقدموا على أنهم وجهاء المجتمع، ولا تستطيع هذه العائلات التخلي عن الامتيازات المذكورة، لذا تؤيد وتقف مع من يمنحها هذه الامتيازات، وتخاف وتتوجس من السلطة الجديدة في البداية، خشية تجاهل تلك المصالح، التي على أساسها تتبدل ولاءات الأسر الحاكمة في العشائر، فهذه العائلات لا تستطيع أن تعيش دون أن يكون لها هذا الحضور والحبوة لدى السلطة.

صنع النظام السوري في كل قرية وعشيرة دكتاتوراً صغيراً يشبه حافظ الأسد، لديه علاقات قوية بالأجهزة الأمنية

العشيرة والنظام السوري

استطاع النظام السوري منذ أيام حافظ الأسد أن يخلق في كل عشيرة وفي كل قرية وحي أسراً تحكم ذلك المجتمع، وتكون مستبدة ومتنفذة، فتصبح جزءاً من النظام، وسلطتها واستبدادها هو عصا النظام في سوق المجتمع وتهديده، حيث يهدد المجتمع بهذا العائلات، وتكون مهمة هذه العائلات الحاكمة والمؤيدة من قبل النظام في المجتمع مراقبة تحركاته وتصرفاته، حيث تحوز هذه العائلات كل شيء، من مال وقدرة على التوسط بين المجتمع والنظام..

وعندما تخرج أحداً من أفراد ذلك المجتمع اعتقله النظام، تظهر على أنها مهتمة بأحوال المجتمع فتكسب بذلك ولاءه، كما أن النظام يريد أن يوصل رسالة للمجتمع بأنه يقيم الاعتبار للعائلات المتنفذة بالعشيرة..

حكمت هذه الأسر المجتمع العشائري من خلال "بعثنة" المجتمع، فقادة حزب البعث في العشائر هم أفراد هذه الأسر الذين يحوزون السلطة والتسليح والجاه، وهم من يقودون كل بعثي في أي قرية أو عشيرة.

وأوكل النظام لبعض هذه العائلات مهمة ممارسة الرقابة على أفراد العشيرة وسكان القرية أو البلدة، إذ يكتب بعضهم التقارير للمخابرات السورية عن تحركات مريبة لأي شخص يشك بولائه للنظام، مثل الإسلاميين أو طلاب الجامعات الذين يشك بأنهم يحملون أفكاراً مناهضة للنظام.

وعادة ما تحدث منافسات بين الأسر التي تتزعم العشائر حول من يكون أكثر ولاءً للنظام من غيره ليصبح أكثر قرباً منه، وكلما زاد الولاء، كلما زادت الامتيازات لهم أكثر..

تمكن النظام بهذه السياسة القائمة من إحداث تنافس بين شرائح المجتمع لا سيما العشائري من تقسيم المجتمع نفسه وفي داخل العشيرة الواحدة، قسم يؤيد تلك العائلات وبالتالي يؤيد  النظام، وقسم لا أهمية له ولكنه يبحث عن مكانة ما، لجأ هذا القسم الأخير إلى التعليم والانتساب للأجهزة الأمنية في النظام، لكي يوازي مكانة شيوخ العشيرة ووجهاء المجتمع، من هنا ولد تنافس اجتماعي كبير بين العائلات داخل العشيرة، الأمر الذي كرس العصبية العشائرية، والكره الاجتماعي، والأنانية والمكايدة، وكلها انعكست على نفسية المجتمع السوري وأفكاره.

صنع النظام السوري في كل قرية وعشيرة دكتاتوراً صغيراً يشبه حافظ الأسد، لديه علاقات قوية بالأجهزة الأمنية، ويكون متسلطاً على أفراد المجتمع، هذا ولّد كبتاً اجتماعياً لدى أجيال من المجتمع السوري، لا سيما في أوساط الجيل الشاب المتعلم من الأسر الأقل مكانة.. كان هذا أحد إرهاصات الثورة ومسبباتها من الناحية الاجتماعية، وقليل من الباحثين من تطرق له، بالرغم من أهميته في إيضاح المشهد بشكل كامل.

لكن الصورة لم تكن بهذا الوضوح لدى المجتمع نفسه، فلا يعرفها أو لا يستطيع تشخيصها إلا باحث اجتماعي، فلو سألت أحد أفراد المجتمع العشائري لقال لك هذا الأمر لا يوجد عندنا بهذه الصورة، ولكن لو سألته من كان المسؤول البعثي الأهم عندكم  لقال لك فلان، ولو سألته عن الاستخبارات السورية عندما كانت تأتي لتسأل عن سلوك أحد أفراد المجتمع، تأتي لمن؟ لقال لك إلى فلان.. إذن "فلان" هذا هو أحد وجهاء العشيرة، وبذا ستصل إلى النتائج نفسها التي قلناها.

لكن ليس كل الوجهاء يكتبون تقارير حقيقية عن المجتمع أو بعض أفراده، في كثير من الأحيان بعضهم يوهم النظام، لكي لا يتأذى الشخص المطلوب مراقبة سلوكه..

 

..يتبع

سلطان الكنج .. سورية
سلطان الكنج
باحث وصحافي سوري، درس الفلسفة في جامعة دمشق، أكتب في الشأن السوري لا سيما الجماعات الإسلامية والجهادية، إضافة إلى كتابات فلسفية ودينية.