لماذا تركت الحياة الأكاديمية؟

لماذا تركت الحياة الأكاديمية؟

24 ديسمبر 2021
+ الخط -

في عام 2013، تخرجتُ من إنكلترا وحصلت على درجة الدكتوراه في اللغة الإنكليزية، وتخصصت في دراسات ما بعد الاستعمار. عدت في عام 2015 إلى الشرق الأوسط، وبدأت العمل أستاذاً في جامعات مختلفة بعد أن أهلكني البُعد وبتُّ مُحمَّلاً بالتزام وواجب أخلاقي وشعور وواجب قومي عربي مثير للشفقة على العودة ومساعدة "شعبي" ووطني العربي.

بعد خمس سنوات ونصف، استقلت قبل أسبوعين من اندلاع فيروس كورونا وقبل أن يبدأ نظام التعليم والتعلّم عن بعد ويثبت فشله في العديد من البلدان العربية. أحسب نفسي محظوظا، وكأن القدر كان إلى جانبي ولو لمرّة.

أجلس الآن في غرفة تبلغ مساحتها 65 مترًا مربعًا فوق سطح بناية على سفح جبلي خارج المدينة، وقد قرّرت أن أستغل الظروف الراهنة وأن أتفرّغ للكتابة حتى إشعار آخر.

يؤسفني القول إنني كنت راضياً أثناء عملي نادلاً في مقهى ومحاسباً في ملعب كرة قدم في إنكلترا أكثر من كوني رئيساً لقسم اللغة الإنكليزية في جامعة مرموقة في الوطن العربي. فلقد كنت حرّا متجليّا مستمتعا في الولوج في بحثي الخاص على وتيرتي من دون توقعات أو حتى نتائج في بعض الأحيان، مع العلم أن بضع ساعات عمل خلال الأسبوع في إنكلترا كانت كافية لتشتري لي ما يكفيني من الويسكي ودفع إيجار الغرفة التي كنت أقيم فيها شمال شرق إنكلترا.

أستمتع بوقتي الآن على قمة الجبل في وسط اللامكان وبالحرية التي تصاحب هذه العزلة أكثر من هويتي السابقة التي كانت مُعرّفة حصرا ضمن إطار دكتور الفلسفة ورئيس قسم للغة والترجمة. ما زلت أفكّر وأحلّ مشاكلي وأكتب أحيانا بفكر الدكتور والمحاضر، لكنني الآن تحررت من الحدود الضيقة والنمطية المدقعة والافتراضات المسبقة التي تأتي معها، وخاصة بالنسبة لشخص في سني وقد جرّبت التنمّر من الكثيرين، فقد أصبحت أستاذاً في التاسعة والعشرين من عمري، وشعر العديد من الأشخاص الذين أمضوا قرابة عمري في مهنتهم بأن أفكاري ثورية، وبأن اقتراحاتي دفاعية وتمسّ ذكوريتهم وكبرياءهم. بعد ست سنوات تقريبًا، أشعر بالتعب وفي رغبة بالبكاء، والأسوأ من هذا وذاك فقد مللت.

هذه ليست دعوة منّي للخروج والاستقالة من الأوساط الأكاديمية بأي شكل من الأشكال. فإن كان لديك حلم فيجب عليك أن تبلغه ولو على قطع رقبتك. ليس في كلامي هذا أية نيّة من التقليل من أهمية التعليم والتعلّم والفلسفة. فأنا أحب التعليم، ولربما أعود إليه بعد فترة من الزمن.

أؤمن أيضا بنظرية أنه عندما يُعلِّم شخص شخصاً آخر، يتعلم شخصان. علاوة على ذلك، فأنا ما زلت باحثًا ناقدًا أدبيًا مشاركًا في ورش العمل والمقابلات والمحاضرات حتى هذه اللحظة. منذ أن استقلت من وظيفتي، أنهيت أيضًا كتابين باللغة العربية وأصدرتهما لدى كبار الناشرين في لبنان ومصر والإمارات العربية المتحدة.

هذه المقالة ليست دعوة للاستقالة، بل هي تأملات في وقت مضى داخل وخارج الأوساط الأكاديمية بعد عام من استقالتي.

خارج الأوساط الأكاديمية، تبدأ في التفكير على نطاق أوسع من جدران الغرفة الصفية والفصل الدراسي ورؤى زملائك. تبدأ أيضًا في التفكير في مقدار التأثير الذي يمكن أن تحدثه وعدد الأشخاص الذين يمكنك الوصول إليهم خارج الأوساط الأكاديمية. فكيف يمكن لكتاب ميلتون "الفردوس المفقود" أو نظرية دريدا في التفكيك أن تساهم حقًا وفعلا في مساعدة وتغيير حال الطبقات العاملة؟

خلال فترة عملي رئيساً لقسم اللغة الإنكليزية، قررت إحدى الزميلات تقديم استقالتها ومغادرة الجامعة بهدف الانضمام إلى جامعة أخرى أقرب وأرخص للطلاب، وبالتالي الوصول إلى عدد أكبر منهم، وخاصة من أصحاب الدخل المحدود. كان يترتّب على هذه النقلة النوعية المزيد من المهام والأوراق والطلاب داخل الصف الواحد. والأسوأ من هذا وذاك أنه كان يترتّب على هذا التغيير تخفيض راتبها بمقدار النصف. الآن أفهم لماذا أقدمت على خيار كهذا. فبعد ثلاث سنوات، أحذو حذوها ولو على نطاق أوسع.

بدلاً من تدريس القصص فأنا الآن أكتبها، ويمكنني أن أشعر بقوة المكوّنات الاجتماعية وتأثيرها للغة ورواية القصص، لأنها أصبحت أكثر شخصية منها مهنية. أقرأ الكتب والأبحاث الآن من أجل المتعة والتعلّم الذاتي، وليس الضغط وضمن النظام الرأسمالي.

علاوة على ذلك، أصل الآن من خلال قصصي وكتبي إلى المزيد من القطاعات والشرائح والأشخاص، حتى إلى أولئك الذين لم ولن يذهبوا إلى الجامعة.

استقلت لأن الروتين لم يعد بروتينًا داعما للفكر والتفكير، بل إلى التكفير. استقلت بسبب غياب عامل الإثارة والتشويق، فقد أمسى كل شيء متوقّعا مملا. كنت في منطقتي المريحة والمألوفة، فغاب عامل التحدّي. حتى على المستوى الاقتصادي لم أكن آمنا. فذات يوم، تعطّلت قطعة في سيارتي واضطررت إلى دفع كل مدخراتي لإصلاحها. أما الآن وبعد أن بعت سيارتي فأنا أستمتع بالمشي الذي لم يكن متاحا لي بسبب نمط الحياة السريعة والمكتظّة وضيق الوقت ما بين القيادة من وإلى العمل، وتصليح وتقييم الأوراق والتحضيرات.

لقد سئمت من حضور مؤتمرات تطول لأكثر من ثماني ساعات أحيانا نناقش خلالها موضوعات ثم نذهب بعد ذلك لتناول العشاء لنتحدث عنها مرة أخرى. الإجازات والعطل في الأوساط الأكاديمية مقبرة للأساتذة. أذكر أنني لم أستطع رؤية والدتي في الخارج لمدة عامين بسبب واجبات إدارية رثّة.

لا يوجد أمن وظيفي في العلوم الإنسانية. فبالنسبة لخرّيجي العلوم هناك حرية أكبر في قطاعات العمل، بمعنى أنه يمكن أن يجد أستاذ الكيمياء عملا خارج الجامعة في مختبر أو صيدلية ما، ولكن بالنسبة للإنسانيات فلا مكان للفلسفة إلا في قطاع واحد أو العمل العبودي في المنظمات غير الحكومية.

بدأ حبي للتدريس والأدب يتلاشى سنة بعد أخرى. كان فعل الانسحاب مقاومة. كان طلابي هم السبب الوحيد الذي جعلني أستيقظ كل صباح وكل عام لفعل ما أفعله من جديد. لكن في مرحلة ما، لم يعد هذا مجديا أو قابلا للتطبيق، وخصوصا حينما لا يهتم الطلاب أنفسهم. فالتعليم عملية تبادلية وليست علاقة من طرف واحد. تدرك أيضا في العمل الإداري بأنك دمية لا تُغني ولا تسمن من جوع، فقد أصبحت الجامعات مراكز تسوُّق يديرها رأس المال لا الأخلاق والمعرفة والتأثير الاجتماعي.

بدأت مسيرتي التدريسية راغبًا في تغيير العالم، ولكن انتهى بي المطاف مديونا محبطا أعلّم الطلاب كيفية استخدام الفاصلة وعلامة السؤال والبحث عن الشقق السكنية الأقرب إلى العمل، والتحديق في شاشة الكمبيوتر وأكوام الورق لفترات وفترات، لينتهي بي المطاف بالاكتئاب والمرض.

خلال فترة وجودي في الأوساط الأكاديمية لم يكن لدي وقت للتفكير والتأمّل. أما الآن وقد فعلت، أعتقد أنه من المهم جدًا علينا أن نظل منفتحين وفاتحين عقولنا وأذرعنا وصدورنا لأية فرص جديدة ومساحات ووسائل مختلفة نستطيع من خلالها التعبير عن هوياتنا الذاتية في الطرق والأوقات كافة.