لماذا اختفى البطل القبطي من شاشتنا؟ (4 من 5)

لماذا اختفى البطل القبطي من شاشتنا؟ (4 من 5)

22 ديسمبر 2021
+ الخط -

في فيلم المخرج والمؤلف الدكتور محمد كامل القليوبي (3 على الطريق) ستجد مشهداً طريفا داخل الزنزانة التي يُحبس فيها البطل سائق عربة النقل، حيث يُفاجأ بأن الشرطة ألقت القبض على شيخ وقسيس وشيوعي من باب المساواة والوحدة الوطنية، وفي فيلم وحيد حامد وشريف عرفة (النوم في العسل) يتم تقديم مشهد للأب داخل الكنيسة وهو يعظ الناس عن مشكلة العجز الجنسي التي يعانون منها، بالتوازي مع مشهد آخر لشيخ يعظ الناس في المسجد للتأكيد على أن المصائب القومية الكبرى تعم الجميع مسلمين ومسيحيين، ستجد أيضاً شخصيات الجنود الأقباط في عدد من الأفلام التي تناولت حرب أكتوبر كنوع من الحرص المظهري على التعبير عن الوحدة الوطنية في مواجهة العدو.

لكنك طيلة العشرين عاما الماضية وأكثر لن تجد فيلماً واحداً تلعب بطولته الرئيسية شخصية قبطية سوى في فيلمين اثنين، وأرجو أن يصحح لي من يراني مخطئاً. الفيلم الأول تم تقديمه عام 1976 وعنوانه (حب على شاطئ ميامي)، والمقصود مدينة ميامي الأميركية لا حي ميامي بمدينة الإسكندرية، وهو فيلم تقول بياناته إنه من تأليف فيصل ندا وسيناريو محمد أبو يوسف وإخراج حلمي رفلة وبطولة شمس البارودي وحسن يوسف، ولأنه لا يكاد يعرض إطلاقاً فلن تجد له أثراً سوى في أدلة الأفلام وقوائمها، والمفترض طبقاً للبيانات المنشورة أن الفيلم يدور في قالب كوميدي، وربما لذلك لم يثر أي مشاكل مع الرقابة أو يثر حفيظة المحافظين من الجمهور.

أما الفيلم الثاني، فهو فيلم (التحويلة) الذي تم إنتاجه عام 1996، وكان يعالج مشكلة القهر السياسي والأمني من خلال قصة قال الفيلم إنها تدور في الستينيات لكي يهرب من الرقابة طبقاً لما قاله لي مخرجه. تحكي قصة الفيلم عن عامل تحويلة مسيحي يتم اعتقاله لسد خانة معتقل هارب من السجن، ويتضامن مع قضيته ضابط مسلم ويصل التضامن إلى أن يلقى الاثنان مصرعهما على يد ضابط سادي لتمتزج دماؤهما معاً كضحية للقهر، لعب بطولة الفيلم المرحوم نجاح الموجي في دور السجين المسيحي وقدم فيه واحداً من أفضل أدواره، ومع أن الفيلم لم يحقق نجاحاً يذكر في دور العرض إلا أن أحد مشاهده اشتهر للغاية وأصبح يتداول على شبكة الإنترنت، وهو المشهد الذي ينطق نجاح الموجي فيه بعبارة "تحيا مصر بس سيبوها وهي تحيا". أخرج الفيلم المخرج آمالي بهنسي في أولى تجاربه الإخراجية عن قصة كتبها شقيقه، وللأسف وافته المنية بعد فترة قصيرة من عرض الفيلم، وكان قد قال لي حين أجريت معه حواراً عقب عرض الفيلم في مهرجان القاهرة السينمائي إن المشاكل الرقابية التي واجهها الفيلم لم تكن بسبب تقديم شخصية القبطي بل بسبب إظهار صورة الشرطة وتجاوزاتها مع السجناء السياسيين بشكل اعتبره البعض جريئاً، مع أنه كان أدنى مما قدم في أفلام سابقة مثل (البريء) و(وراء الشمس) و(الكرنك) وغيرها من الأفلام التي تحدثت عن أوضاع السجون والمعتقلات.

ماذا عن الدراما؟

لو استعرضت الإنتاج الدرامي الضخم الذي هو أكثر من الهم على القلب ستصل إلى النتيجة نفسها التي وجدتها في السينما، فلن تجد في السنوات الأخيرة مسلسلاً يفرد مساحة درامية واسعة لأبطال أقباط سوى مسلسل (خالتي صفية والدير) الذى أخرجه المخرج إسماعيل عبد الحافظ عن قصة الأديب بهاء طاهر وسيناريو الكاتبة ـ والرقيبة السابقة ـ يُسر السيوي، ولا أدري هل كان ذلك سبب ندرة عرضه في التليفزيون مقارنة بباقي مسلسلات إسماعيل عبد الحافظ، خصوصاً أنه حقق نجاحاً كبيراً حين تم عرضه لأول مرة. فيما عدا ذلك ستجد أن ظهور الأقباط في الدراما يقتصر على شخصيات ثانوية لا تتجاوز الشخصية أو الشخصيتين في كل عمل، ليزيد العدد إلى أربع شخصيات في مسلسل (الحاوي) للمؤلف محسن زايد والمخرج يحيى العلمي.

في سنوات السبعينات وبداية الثمانينات ظلت الدراما التلفزيونية تشهد حظراً غير مقنن وغير معلن على ظهور الأقباط في ساحتها، لولا أن قام الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة والمخرج إسماعيل عبد الحافظ بكسر ذلك الحظر حين قدما في مسلسلهما الجميل (الشهد والدموع)، شخصية مكرم جار أسرة عفاف شعيب، والذي لعب دوره باقتدار الفنان شوقي شامخ، وكان من أجرأ ما قدمه المسلسل بمعايير وقت عرضه هو قصة الحب التي خاضها مكرم من طرف واحد مع ابنة الأسرة المسلمة التي لعبت دورها نسرين وذلك بعد أن تعرضت لأزمة عاطفية عاصفة، فوقف مكرم إلى جوارها ووقع في حبها، ونشرت بعض الصحف وقتها أن الأزهر اعترض على وجود مشاهد يعلن فيها مكرم حبه لها فتم حذف تلك المشاهد.

لكن الأستاذ أسامة أنور عكاشة نفى ذلك، وقال لي: "الأزهر لم يشاهد المسلسل أصلاً ولو كان قد عرض عليه كنت كشّرت عن أنيابي، قصة الحب أصلا كانت من طرف واحد، والشخصية كانت درامية وغير مفتعلة وغير متعسفة ولذلك لم تثر خوف الرقابة، لكن أذكر أن بعض المقالات كتبت في مجلة تابعة للأزهر كتبت تعليقات ساذجة من نوعية لماذا لم يظهر شيخ في المسلسل كما ظهر قسيس ناسية أن باقي شخصيات المسلسل كانت مسلمة ، بعدها قدمت في مسلسل ليالي الحلمية شخصية كمال خلة التي لعب دورها أيضاً شوقي شامخ وكان لها حضور كبير وتقبل الناس ذلك بشكل جميل وهو ما أسعدني، ولم أسمع تعليقات ضد هذا أبداً، بعد ذلك قدمت شخصية وكيلة المدرسة القبطية في مسلسل (ضمير أبلة حكمت) ولعبت دورها سميرة عبد العزيز، وفي مسلسل (أهالينا) قدمت شخصية الصيدلي، وفي مسلسل (زيزينيا) قدمت شخصية قبطية سيئة لعب دورها بالمصادفة أيضا شوقي شامخ. وبالمناسبة أريد هنا أن أتوقف عند مصطلح الشخصية القبطية الذي طرحته في سؤالك، لأؤكد أننا جميعاً في مصر قبط وهناك منا قبط مسيحيون وقبط مسلمون لكن لا يفرق بيننا شيء ولذلك أعترض على استخدام هذا المصطلح الذي نلجأ إليه أحياناً لضرورات إعلامية أو لأنه شاع بين الناس لكن من المهم الاعتراض عليه في رأيي".

حين سألت الفنان شوقي شامخ عن الظروف التي جعلت منه الممثل الرسمي للأقباط على شاشة التلفزيون، أجابني ضاحكاً: "مش عارف ده حصل إزاي، أنا ما خططتش لده طبعاً، كل الحكاية إني لما بتيجي لي شخصية من كتابة أسامة أنور عكاشة، بتيجي مكتوبة بشكل رائع، ليها تاريخ درامي ومواصفات وأحداث، وده اللي باركز فيه، مش بابص لديانة الشخصية، وبالتالي ما ينفعش إني أرفض شخصية مكتوبة حلو لمجرد إني أديت ديانتها قبل كده، امسك كل شخصية من اللي لعبتهم هتلاقيها مختلفة عن غيرها، هو بس اللي حصل إن الناس اللي ما يعرفونيش بيقوا بيتعاملوا معايا إني مسيحي، وده أسعدني جداً،  مع إن اسمي شوقي محمد شامخ، على أية حال من بين كل الشخصيات المسيحية اللي قدمتها هي شخصية مكرم اللي بدأت بيها في (الشهد والدموع)، كانت شخصية غنية وفيها لمسات إنسانية من غير افتعال أو شعارات، ورد فعل الناس على الشخصية كان مفاجأة جميلة بالنسبة لي، خصوصاً بعد مرور كل السنين دي على عرضها".

أخوكم عيسى العوام

خلال استعراضك لتاريخ الشخصيات القبطية على شاشة السينما والدراما، ستصادفك عدة مفارقات من أطرفها أن أشهر شخصية مسيحية تم تقديمها على شاشة السينما وتحولت إلى تراث شعبي جيلاً بعد جيل، لم تكن في الواقع مسيحية، بل كانت مسلمة طبقاً لوقائع التاريخ، وهي شخصية عيسى العوام التي أبدع صلاح ذو الفقار في تقديمها في فيلم (الناصر صلاح الدين)، وبرغم وجود مشاهد عديدة في الفيلم تتحدث عن عدم تفرقة صلاح الدين في المعاملة بين عيسى العوام وزملائه من المسيحيين ـ اشتهر منها عبارة "يتحدث عنا أخونا عيسى" ـ إلا أن الروايات الموثقة تقول إن عيسى العوام كان مسلماً، لكن يوسف شاهين وشركاءه في كتابة الفيلم من كبار الكتاب جعلوه مسيحياً لأجل خاطر التسامح الديني الذي حرص الفيلم على التأكيد عليه، ولم يكن ذلك التغيير الوحيد الذي أحدثه الفيلم في الحقائق التاريخية، لكنه كان الأنجح والأكثر تأثيراً على الجمهور حتى الآن.

...

نختم غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.