لكي يمضي الماضي

13 يناير 2025
+ الخط -

في معظم البلدان التي شهدت تجارب عنف قاسية، انطلقت "العدالة الانتقالية" من بديهة مفادها أن الحياة ليست مثالية، بل ليست عادلة، وأن كل ما نستطيع فعله، لأسباب عملية جدًا، هو الاقتراب من العدالة أو شيء منها. وعلى هذا، أصحاب فكرة التسامح والمصالحة لم يكونوا رومنسيين أو مثاليين، بل عكس ذلك تمامًا. فقد جادلوا بأن الحياة وحشية إلى حد تضعنا أمام خيارين وحشيين هما أن نحقق "العدالة" فننتقم من عدد هائل من المرتكبين، وبالتالي نطلق النار على المستقبل ويخسر الجميع، أو نسامح ونتصالح وتربح الأغلبية.

في التجربة الرواندية على سبيل المثال، اعتُبرت المسامحة، وفقًا للفكرة أعلاه، أنها هي نفسها العدالة، ذلك أن الخيار الآخر كان دورة إفناء جديدة لن تُبقي ولن تذر. في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حصل الشيء نفسه لكن مع بعض الاختلاف غير الجوهري. فالمحاكمات العسكرية التي أقامها الحلفاء المنتصرون بعد الحرب وعُرفت بمحاكمات نورنبيرغ عدد القادة النازيين الذين أُدينوا فيها كان 199 فقط، هذا مع العلم أن الأعضاء النشطين في الحزب النازي كانوا بالملايين.

غير أن ما حصل في ألمانيا، داخليًا، كان البدء بعملية تحقق قدرًا من العدالة سُميت "نزع النازية" Denazification تضمنت إزالة التأثير النازي من المؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية. وفي سبيل ذلك حُظر على ملايين الألمان ممن تورطوا سابقًا في ارتكابات مادية أو معنوية المشاركة في أي نشاط مرتبط بالحياة العامة. وشمل ذلك سحب رخص العمل من المهنيين العاديين، مثل الأطباء والمحامين والمهندسين. هنا أيضًا اعتبر الألمان أن المسامحة والمصالحة، ولو بقيت الجراح مفتوحة، هي أن يربح الجميع المستقبل.

في سورية اليوم، والأمس طبعًا، نقع على ثقافة سائدة عند النخب خصوصًا، هي أن الحديث عن الطائفية أخطر من الطائفية نفسها

ولكن الأمر أكثر تعقيدًا في بلادنا. ففي العراق بعد الغزو الأميركي، كانت المشكلة الطائفية عائقًا أمام أي نوع من العدالة. فالعملية التي أُطلق عليها اجتثاث البعث De-Ba'athification كانت حقًا اسمًا على مسمى، أي حصل اجتثاث مادي للبشر. والمعضلة كانت أن البعثيين كانوا في معظمهم منتمين لطائفة بعينها، فأصبح الاجتثاث اجتثاثًا لطائفة أكثر منه نزعًا لفكر. هنا كان الانتقام وشفاء الصدور هو المحرك.

أما في جنوب أفريقيا فكان الأمر أكثر فعالية. فمثلما كانت تجربة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا فريدة، كانت المصالحة التي تلت النزاع فريدة كذلك. فبعد زوال الأبارتايد، صالح الجنوب أفريقيون وسامحوا كثيرًا، لكنهم، وهذا هو الأهم، تكلموا أكثر حول الماضي الأليم، تكلموا بغزارة وصراحة مشروطين بحسن النيات. والكلام ذاك كان استراتيجية وطنية كاملة، شمل الكتب المدرسية والجامعات والإعلام والثقافة عمومًا، وإنشاء المتاحف وبناء النُصب لتخليد الضحايا واحترام معاناتهم. هذا ما ساعد جنوب أفريقيا على التعافي وأعطاها فرادةً عن البلدان التي شهدت صراعات، بما في ذلك أميركا التي لا يزال الحديث فيها عن الماضي العنصري وحقبة العبودية مشوبًا بالتأتأة والمأمأة، والهرب والخجل.

في سورية اليوم، والأمس طبعًا، نقع على ثقافة سائدة عند النخب خصوصًا، هي أن الحديث عن الطائفية أخطر من الطائفية نفسها. بل حتى مجرد التسمية الموضوعية تدخل في تلك الخطورة. فقد تجد مقالًا طويلًا ينضح طائفية من غير أن تجد كلمة واحدة فيه تسمي الأسماء إلا رمزًا. فالسنة اسمهم "الإسلاميون"، والعلويون اسمهم "أهل الساحل" والدروز هم أهل جبل العرب.. إلخ بكلمة، الكلام، بكل صيغه، عما مضى، هو ما يمنع تكراره. فلكي يمضي الماضي، ينبغي أن يُتذكر دائمًا، لا أن يُنسى.

AD28D8DD-82CD-4359-9B77-8FE9B653247D
AD28D8DD-82CD-4359-9B77-8FE9B653247D
هشام غانم

كاتب عربي مقيم في الأردن، كتب في عدة صحف ومواقع إلكترونية وساهم في تأسيس وتحرير بعضها. عبرتُ منتصف العمر ولا زال لديّ توق جارف للحياة. أحاول، أسعى، أتعلّم. منشغل انشغالاً أزلياً في عقد تسوية مُرضية بين قلبي وعقلي. ليس لي قضية سوى الخروج من هذه الحياة بأقل الخسائر، ومساعدة الخاسرين على الصبر على خساراتهم. ولكنّه ليس صبراً عاجزاً، بل صبر استراتيجي، أو هكذا أعزّي نفسي!

هشام غانم